إستلزم التوسع الهائل في المعرفة والتطور العلمي والتقني الذي يشهده عالمنا المعاصر، والذي تسعى دول العالم المختلفة لتوظيفه لبناء صناعة متطورة وتحقيق تنمية إقتصادية واجتماعية شاملة بهدف تحسين مستويات معيشة شعوبها، وتأمين متطلبات إمنها وأمانها في عالم يشتد فيه الصراع لإمتلاك ناصية العلم وحلقات التقنية المتقدمة، إعادة نظر جادة وشاملة في اوضاع الجامعات والمؤسسات التعليمية وفي أساليب عملها ونظم الدراسة ومناهجها، ذلك ان الجامعات هي أهم أدوات التغيير العلمي والإجتماعي والإقتصادي في اي بلد من البلدان.
ولم يعد كافيا ان تقوم الجامعات بوظائفها المعتادة في البحث والتدريس وإعداد الملاكات وخدمة المجتمع، بل اصبح لزاماً عليها الإسهام الفاعل في توظيف معطيات العلوم الحديثة والتقنيات المتطورة ونتائج البحوث العلمية لحل المعضلات التقنية التي تواجهها المؤسسات الصناعية والإنتاجية بما يعينها على تطوير منتجاتها وتخفيض كلفها لضمان فرص تسويقية افضل في الأسواق المحلية والعالمية على حد سواء، وكذلك تحسين أداء العاملين ورفع قدراتهم العلمية والتقنية لضمان اعلى درجات الجودة والتمييز. ونظراً لطبيعة عمل الجامعات التقليدية وبطء إستجابتها لحاجات المجتمع ومقاومتها لتغيير أساليب عملها. ظهرت في النصف الثاني من القرن المنصرم مؤسسات تعليمية حديثة ذات طبيعة تقنية خاصة لمواجهة متطلبات التنمية بتوفير المهندسين والتقنيين في التخصصات العلمية والتقنية الجديدة على وفق أسلوب تعليمي مميز. ولعل أبرز النمإذج الناجحة والمميزة في هذا المجال ما حققته الهند بإنشاء خمسة معاهد متميزة في العلوم والتقنية وذلك في عقد الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. وتعد هذه المعاهد من المؤسسات التعليمية الراقية جداً ليس على صعيد الهند حسب، بل العالم ايضاً. تقوم هذه المعاهد بإعداد مهندسين وعلماء وتقنيين بمواصفات علمية راقية جداً لإسهام الفاعل في تحقيق نهضة الهند وتلبية حاجاتها وهو ما بات الأن واضحاً للعيان. كانت السمة البارزة لهذه المعاهد تمييزها في البحث والتطوير وبرامج الدراسات العليا ولاسيما في مجالات بحوث الفضاء والطاقة الذرية والإتصالات والمعلومات والتصنيع العسكري التي لم يكن بالإمكان تحقيقها بالكيفية والكفاية العالية من المؤسسات التعليمية التقليدية.
لقد نجحت الهند بتوظيف العلم والتقنية لمصلحة التنمية نجاحاً باهراً فبعد ان كان هذا البلد يعاني فقراً شديداً وأمراضاً مستوطنة عديدة ويعتمد كثيراً على المعونات الخارجية، باتت الهند الآن تتمتع بالكفاية الذاتية في الغذاء وبالرعاية الصحية لمواطنيها، وقادرة على تصنيع اقمار صناعية وصواريخ ومحطات طاقة نووية وإنتاج ادوية، ومالكة للسلاح النووي وانظمة صواريخ وانظمة حروب الكترونية، وتتقدم نحو أعمال الحاسوب والبرمجيات لما تبلغ صادراتها نحو (3.9 ) مليار دولار أمريكي، إضافة إلى مبيعاتها في السوق المحلية البالغة (1.25) مليار دولار، إذ توجد في الهند حالياً (946) شركة متخصصة في الصناعات البرمجية. كما توجد فيها ( 1800) مؤسسة تعليمية لإعداد ملاكات متخصصة في تقنيات المعلومات المختلفة، يتخرج فيها سنوياً قرابة ( 6800) شخصاً من حملة الشهادات المختلفة وفيهم حملة شهادات الماجستير والدكتوراه، كما يوجد (2300) مركزاً تدريبياً، يتخرج فيها قرابة (10000) شخص سنوياً في تقنية البرمجيات. وتعد مدينة بانكالور لتقنية المعلومات احدى اشهر المدن العلمية في العالم. لقد أصبح التعليم التقني أحد العوامل الأساسية التي تسهم في رقي وتقدم الشعوب إجتماعيا" وإقتصاديا".
لذا قد اولته الدول المتقدمة إهتماما" خاصا" ووفرت له الأموال اللازمة لتأمين تفوقها التقني في عالم يشتد فيه الصراع على إمتلاك ناصية العلم وحلقات التقنية المتقدمة لضمان أمنها ومستقبل أجيالها في الحياة الكريمة.
ويتضح من ذلك أن التنمية التقنية الوطنية هي الحجر الأساسي الذي يرتكز عليه التقدم الصناعي والإقتصادي.
ومن هنا ينبغي إعداد التقنيين إعدادا" خاصا" بحيث يكون قادرا" على الإبداع والإبتكار والتعامل مع تقنيات العصر ومبتكراته وتوظيفها لمصلحة تقدم أمته ورفاهية شعبه في المكان والزمان المطلوبين، وبكلف إقتصادية تنافسية لمصلحة الإنتاج الوطني وبنوعية جيدة كي يضمن لأمته مكانتها اللائقة بين أمم الأرض.
يتطلب تطوير التعليم الجيد نهجاً جديداً يختلف عن التعلم القائم على الحفظ والاستظهار السائد حالياً في البلدان العربية. ويتطلب ذلك إصلاحاً جدياً في النظام التعليمي، وإدماج وسائل تعليمية جديدة تتمحور على التفكير النقدي والتعلم الفاعل مع التركيز على رفاه الطالب.
أما التعليم في المستويين الثانوي والعالي، فيجب على السياسات المرتبطة به أن تركز على تطوير مهارات نوعية متينة تمكن الفرد من اكتساب المهارات المتخصصة بسهولة أكبر أثناء تعلمه مدى الحياة.
كما ينبغي أن يصبح التدريب المهني في التعليم الثانوي وما بعد الثانوي محورياً في إصلاح السياسات التعليمية الوطنية بغية زيادة نطاق المهارات، ومعالجة ندرة الكفاءات المتوسطة المستوى أو الحرفية، حيث إن هذه الندرة تعرقل جهود التصنيع ويمكن تنفيذ التدريب على تطوير المهارات المهنية على أفضل وجه عبر المشاركة الفاعلة لشركات خاصة.
إلاّ أنه يلاحظ بأسف شديد أن التعليم التقني في الكثير من الدول النامية ومنها البلدان العربية لا يحظى بالقدر الكافي من الإهتمام مقارنة بالتعليم الأكاديمي الذي تتجه معظم برامجه الدراسية نحو الدراسات النظرية التي يصعب الإفادة من مؤهلات خريجيها في معظم القطاعات الإنتاجية، حيث تعاني هذه البلدان من نسبة بطالة عالية بأعداد خريجي الكليات والجامعات تصل إلى نحو (40%) من إجمالي عدد الخريجين أو أكثر في بعض البلدان، الأمر الذي دفع بعض حكوماتها توظيفهم في القطاع الحكومي دون حاجة فعلية لخدماتهم فيما بات يعرف بالبطالة المقنعة، أي وظائف بدون عمل حقيقي أو أية إضافة للإقتصاد الوطني، وقد يتسبب ذلك بإعاقة عمل المؤسسات الحكومية بسبب ترهلها. وهذا يدعونا إلى الدعوة إلى إعادة نظر جادة وشاملة في مجمل العملية التعليمية والتربوية في بلادنا، توجهاتها وبرامجها وتخصصاتها وأساليب تدريسها، ومدى إرتباطها بحاجة سوق العمل وتلبية حاجاته، مع إعطاء أرجحية واضحة لقطاع التعليم المهني والتقني، ذلك أن هذا النمط من التعليم يمكن أن يسهم إسهاما فاعلا في بناء إقتصاد قوي ومزدهر ويحقق تنمية شاملة ومستدامة.