البصرة مدينة عربية الروح والجسد.. مدينة الفكر العربي واحد الأمصار الإسلامية السبعة قبلة الدنيا ذات الوشاحين وعين العراق.. إنها مدينة التاريخ والحضارة.. تاريخها حاشد بالبطولات زاخر بالأمجاد.. ناطق بالمكارم. فهي القلعة الأولى من قلاع العروبة والإسلام قامت على أقصى نقطة من صحراء الجزية العربية وأدنى مكان من البحر، والبصرة أول حاضرة عربية إسلامية رفعت لواء العلم والفلسفة والتشريع والتصوف والأدب لتزدهر الآفاق الحضارية بالعدل والمعرفة والسعادة.
وقد أسهمت البصرة بشكل فاعل في إغناء وتطوير الثقافة العربية، إذ كانت مركز إشعاع فكري أنار أرجاء العالم الإسلامي، وليس ببعيد عن الأذهان ذلك الدور الذي لعبه (مربدها) الذي كان يجمع فحول الشعراء والأدباء، وجامعها الكبير الذي كان أفخم مدرسة علمية في عهد الأمويين وصدر الخلافة العباسية.
وقد انبثقت من البصرة أسس الحضارة العربية الإسلامية واغتنت جنباتها، وكانت المدينة الوحيدة التي كان إسهامها الحضاري ثمرة لمزاوجة فريدة بين العلم والتجديد والابتكار. وقد أثبتت البصرة عبر تاريخها الحافل بالابتكار والتجديد في العلم والفكر والأدب أن تطور العلوم رهن بعدد قليل من العلماء المبدعين الذين لا يهدأ بالهم بترديد ما تعلموه ولكن بتطوير ما تعلموه. يلاحظ المتتبع لتاريخ البصرة إن الجديد المبتكر في الفكر والعلم والأدب كان في الغالب ينبع من إعلام هذه المدينة المتميزة في موقعها والمتفردة في تكوينها الاجتماعي. ففي مدينة البصرة وضع أبو الأسود الدؤولي أسس النحو العربي مقسما كلام العرب ـ أول مرة في تاريخهمـ على اسم وفعل وحرف وفاتحا بذلك الباب واسعا أمام علم جديد هو علم النحو. ثم برز في هذه المدينة أيضا سيبويه والمبرد وغيرهما ليكملوا ما بدأه أبو الأسود ويضيفوا إليه. وقبل ذلك كانت العرب تتكلم على السماع من دون أن تعرف لماذا ترفع هذه الكلمة وتنصب تلك.
وفي مدينـة البصرة وضع الخليل بن احمد الفراهيدي بحور الشعر العربي ـ مبتكرا أول مرة في تاريخ العرب ـ ميزانا علميا باهر الدقة للشعر الذي هو ديوان العرب. وقبل الخليل كانت العرب تنظم الشعر على السليقة من دون قاعدة دقيقة يمكن الاحتكام إليها، وقد بقيت أوزان الخليل هي المعيار الأوحد لموسيقى الشعر العربي لا يحيد عنها الشعراء على مدى أكثر من ثلاثة عشر قرنا حتى خرج عليها شاعر فذ من أبناء مدينة البصرة نفسها تميز بالابتكار والتجديد هو بدر شاكر السياب رائد الشعر الجديد.
وفي مدينة البصرة وضع الخليل أيضا أول معجم في اللغة العربية وهو (العين) متبعا فيه أسلوبا فريدا في ترتيب الحروف أكثر منطقية من التسلسل الهجائي أو الأبجدي، يتمثل في قراءتها على وفق مخارجها في الحلق، مبتدئا بالحروف التي تخرج من عمق الحلق (مثل العين) ومنتهيا بالحروف التي تلفظ من الشفاه، (مثل حرف الواو).
وفي مدينة البصرة وضع الحريري (مقاماته) التي تعد بحق أول محاولة في التاريخ العربي لتأسيس فن لم يكن معروفا لديهم من قبل وهو فن القصص. وفي مدينة البصرة، وضع الجاحظ كتابه (الحيوان) وغيره من الكتب، ووضع ابن دريد كتاب الجمهرة والمقصورة، ووضع المبرد كتاب الكامل. ومنها خرج الفرزدق وجرير صاحبا النقائض، وبرز الأصمعي والماوردي، ونبغ الحسن بن الهيثم في علم الرياضيات والبصريات، وألف إخوان الصفا رسائلهم المعروفة في الفلسفة وعلم الكلام.
وبقيت البصرة، على مدى قرون عديدة، مركزا مهما من مراكز الثقافة والإشعاع الفكري، وبقي معها مسجدها الجامع صرحا علميا يخرج العلماء والفقهاء خلال عهد الأمويين وصدر الخلافة العباسية، ذلك أن جامع البصرة لم يكن مكانا لإقامة الصلاة فقط، وإنما كان مدرسة علمية يؤمها الدارسون من مختلف أرجاء العالم الإسلامي للتزود بألوان المعرفة على يد علماء أعلام اتخذوا منه مكانا لتعليم العلوم العربية الإسلامية. فتخرج فيه آلاف الدارسين الذين برزت منهم أسماء لامعة خلد التاريخ أصحابها لما أنجزوه من أعمال فذة وتركوا من آثار نادرة فهذا صوت إمام الهدى والفضيلة علي بن أبي طالب (ع) يدوي في أرجاء المسجد الجامع، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
تفتح أرضا يقال لها البصرة
أقوم أرض الله قبلة.. قارئها
أقرأ الناس وعابدها أعبد الناس وعالمها أعلم الناس ومتصدقها أعظم الناس صدقة.
وبعد أفول شمس الحضارة العربية الإسلامية الساطعة انحسر عصر العلوم العربية الذهبي وضعفت البصرة ومسجدها الجامع. وفي تاريخها الحديث غدت البصرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر واحدة من المراكز التجارية المرموقة في العالم بسبب التغيرات الهائلة في التجارة الدولية، وخاصة في تجارة الخليج العربي. وظلت محتفظة بالزعامة التجارية طيلة فترات التاريخ اللاحقة. ومنذ ثلاثة عقود والبصرة الفيحاء ما انفكت تواجه الكوارث والمحن كما لم تشهد ذلك أية مدينة أخرى في العصر الحديث،ففي العام 1980 دارت فيها وعلى مشارفها أشرس حرب استمرت ثمان سنوات احترق فيها الأخضر واليابس، وفي العام 1991 دمرت البصرة ثانية فيما عرف بحرب الخليج الثانية وما أعقبها من تخريب وأعمال مسلحة واسعة النطاق، وكانت البصرة مدخل الغزاة ومسرح عملياتهم الحربية الواسعة في العام 2003 فيما عرف بحرب الخليج الثالثة. وهي اليوم ساحة صراع المليشيات المسلحة وتصفية حسابات المخابرات الأجنبية وعصابات تهريب النفط. وقد نجم من كل ذلك تخريب واسع للبصرة، إذ تحولت إلى مدينة أشباح بعد أن كانت من أجمل مدن العراق وأكثرها رقيا وحضارة، وكان يطلق عليها ثغر العراق الباسم ولؤلؤة الخليج العربي.
والبصرة كما هو معروف من أغنى المدن في العالم لما تملكه من ثروات نفطية هائلة ومياه وفيرة وأراض زراعية خصبة وموانئ بحرية، يعيش اليوم أهلها في فقر مدقع ويفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة الكريمة التي أبسطها توفر المياه النظيفة الصالحة للإستهلاك البشري.
ومشكلة المياه في البصرة والحق يقال ليست وليدة اليوم، بل أنها تعود لنحو أربعة عقود أو أكثر دون أن يكترث لها أحد على الرغم من تفاقمها عاما بعد آخر حيث تزداد ملوحتها ويكثر تلوثها، ورغم رداءة نوعية هذه المياه فإن أغلب مناطق البصرة كانت تعاني من شح هذه المياه على مدار العام.
وهنا يحضرني تصريح لمحافظ البصرة لطيف محل حمود السبعاوي الذي إستلم مهام منصبه في مطلع عقد التسعينيات من القرن المنصرم لمجلة ألف باء جاء فيه:
"أن البصرة تشرب من مجاريها "
وهو يقصد بذلك أنه قد وجد أن مياه إسالة المياه التي تضخ إلى الناس ملوثة بالمياه الثقيلة لتداخل أنابيبها الناقلة لتلك المياه بعضها مع البعض الآخر نتيجة تكسرات هذه الأنابيب.
وتذكر بعض المصادر أن الشركة الألمانية المنفذة لمطار البصرة الدولي في أواخر عقد السبعينيات قد وجدت أن مياه البصرة لا تصلح في الأعمال الإنشائية لمباني المطار، ناهيك عن إستخدامها للشرب نظرا لملوحتها العالية. وفي مطلع عقد التسعينيات قدم لي من موقعي رئيسا لجامعة البصرة يومذاك أحد أساتذة قسم علوم الحياة بكلية العلوم تقريرا يتضمن تحليلات مختبرية لمياه الشرب في البصرة، حيث أكد التقرير عدم صلاحيته لأي إستخدام بشري لإحتوائه على الكثير من الطفيليات والجراثيم والبكتريا المهددة لصحة الإنسان والحيوان على حد سواء، وقد رفعت التقرير إلى محافظ البصرة وعضو قيادة حزب البعث في البصرة يومذاك ولم يحرك أحدا ساكنا، وأن جلّ ما تم لا يتعدى خفض اسعار المياه المعدنية في أسواق البصرة، وتزويد بعض مناطقها السكنية بمياه خالية من الأملاح ينقل إليها بواسطة سيارات حوضية من مجمع البتروكيمياويات وتوزع مجانا. وكإسهام متواضع من الجامعة فقد سمحت لدائرة ماء البصرة بنصب محطة لتحلية المياه في مجمع كليات الجامعة في كرمة علي شمالي البصرة لتزويد المدينة وكليات المجمع بمياه صالحة للإستهلاك.
يلاحظ أن إجراءات جدية لم تتخذ من قبل الحكومات المتعاقبة لحل أزمة المياه في البصرة برغم تفاقمها، وقد لجأ النظام السابق تزويد البصرة بمياه الشرب من نهر الغراف من منطقة البدعة شمالي مدينة الناصرية عبر قناة تمتد لمسافة 240 كم إلى مدينة البصرة استكمل إنشاءها عام 1997، إلاّ أن ذلك لم يكن كافيا لمعالجة أزمة المياه في البصرة لاسيما بعد تفاقمها أكثر فأكثر عاما بعد آخر بسبب إمتناع دول الجوار (تركيا وإيران) تزويد العراق بحصته المائية التي يستحقها بموجب الأعراف والقوانين الدولية، وتحويل إيران بعض مجاري الأنهار التي كانت تزود العراق بالمياه نحو أراضيها، وتحويل مجاري البزل المالحة نحو الأراضي العراقية.
ومنذ ذلك الحين وأزمة المياه ما زالت مستمرة، حيث أدى شح المياه إلى موت المزارع والنخيل والحيوانات، وتراجع الثروة السمكية في شط العرب، بسبب زيادة نسبة ملوحة المياه في الشط وقنواته، وارتفع المد الخليجي المالح إلى مناطق شمال البصرة.
وأنه لأمر محزن أن تتناقل الأخبار أن الكويت البلد الصحراوي الذي كان حتى وقت قريب يتمنى أهله التمتع بمياه البصرة العذبة، يتصدق الآن على العراق ببعض محطات تحلية المياه وكأن العراق بخبراته وثرواته الهائلة قد عجز عن شراء ونصب مثل هذه المحطات التي باتت تشكل عصب الحياة في دول الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية منذ زمن طويل.
نسأل الله أن تنعم البصرة الفيحاء وأهلها الطيبين بالعيش الكريم والأمن والأمان.