- قاسمهما المشترك المرأة والثبات اللغوي ودقة التصوير الشعري
- ذهب عمارة الى الوصف بقوة وعالج اختلاف المعنى بالتشبيه
قصيدتان جميلتان للشاعر (عباس محمد عمارة) تناولناهما في هذا المقال بشيء من الدراسة ،وهما على التوالي (جمانة حداد) و (نساء مغرمات)، وقد أفردنا لهما هذه المساحة لنقف على مكنون ما تناول عباس عمارة في شعره، وما ذهب إليه من مذهب كرسه لمعالجة الحالة التي بنى عليها مفردات قصائده. غلب عباس محمد عمارة صفة المخاطب في قصيدته، معتمداً الأخر رمزاً بنى عليه مادة القصيدة وتكوينها الكلي، لتشكل إشارة للبعد الخفي في ما وراء الصورة المكتوبة، استخدم الرموز للدلالة الشعرية فجاء على كلمات مثل (رعشة، شبق، تنوره، ثورة، أرداف، جامحة، ضفاف)، كما جاء على إدراج مشاعر معينة تحدد استخداماتها في نسق معين دون غيره، وحين تعميمها يراد منها الإسقاط، وهو ما تناوله عمارة في نصه فاسقط تفاصيل تتعلق بالعلاقة التكوينية مابين الرجل والمرأة، ليوحي من خلالها بالإشارة الصريحة للثورة ومشاركة المرأة فيها. الكم الهائل من الكلمات الدالة بمعاني الإسقاط على مجريات الحدث، خلقت زخماً من المفاهيم أختلط فيها الشيء الحقيقي بالذي هو خيال، فجاءت صورة عباس عمارة موحية باختلاط الخيال مع الواقع، فالواقع ثورة وما سواها فهو خيال. ذهب عباس عمارة الى الوصف بقوة، وعالج اختلاف المعنى بالتشبيه، فجاء على استخدام التضاد في اللفظ ليوصل فكرة التناقض الحسي ليٌثبت المعنى المقصود (تحت تنورة الثورة)، ومن ثم (بإرداف بحيرة جامحة) وجامحة صفة تطلق على النساء والخيل، إلا إن عمارة أدرجها ليصف البحيرة، وأكمل ذلك الوصف (بضفاف غرائزك)، وهنا أراد الاستعاضة ربما عن مخاطبة المرأة بصورة مباشرة ليحاكي في خطابه البحيرة استعاضة عنها. استخدم عباس عمارة في هذا المقطع لوحده الاستعارة والوصف والتعويض والمقارنة، وأعتمد الرموز للدلالة كما الإسقاط، ومنها خرج بمطلع لقصيدته جمع فيه كل تلك المتناقضات ليكون صورة معبرة جامعة هادفة جميلة، احتوت ما طرز قصيدته من أسم (جمانة حداد).
جمانة حداد، رعشةُ الكلماتِ
وشبقَ الأَنوارُ
تحتَ تَنُّورَةِ الثَّوْرَةِ
تُشِعُّ بِأَردافِ بُحَيرةً جَامِحةً
تَترقَّبُ قُدُومي
إِلَى ضِفَافِ غرائزكَ،
مِنْ جَديد، سَأَبعثُ الحياة
قُبلات مُتَمَرِّدَة
وستلعنَّ شفتيَّ
عَهِرَ الذُّكورةُ
لَمسةُ رغباتي
تَفْضَحُ اِنْتِصَابَ الضُّعْفِ
فِي خِطَابِ التَّكْفِيرِ
ومن رعشة الكلمات ولدت قصيدته الجميلة المعبرة، والتي أبدع بتسجيل مضمونها، ذهب الى الثورة من ثورته (جمانة) ليسجل رفضه ما اسماه بطولات الرجال ، ولا نعلم أي بطولة هو يقصد، فقد تركها مفتوحة على المطلق ولم يحدد، وابقي لنا الباب مشرعاً لنختار، وهنا من الوارد أن يكون اختيارنا في غير محله، (المعنى في قلب الشاعر) هو قصدها فعلاً في عدم تحديد نصه بمضمون ثابت، ليترك القارىء في تلك الحيرى ويذهب الى المطلق في النص، فأتاح للتصور الذهاب الى حيث يشاء حين استخدم بالتحديد (بعد) وهي ظرف مبهم لا يفهم معناه إلا بما بعده، وحدد (بعد قتلي لشهرزاد)، أي إن قتل شهرزاد هو الموضوع، وأن ما سيأتي بعده هو المقصود، وما بين الموضوع والمقصود قد تطول المسافة ويرتحل الزمن، وربما لا يتحقق، وهو ما تثبته الحقيقة إن أدركنا أن شهرزاد شخصية خيالية لا وجود لها إلا في كتب القصص والروايات. أي إن عباس عمارة فتح لنا فسحة من الزمن على اللا منتهي ليزجه في طريق القارىء ويتركه يتحسس زمنا غير قابل للنفاد أو من غير الممكن الوصول فيه الى نهاية منتظرة.
ثم خرج من عباءة شهرزاد ليعود الى المستحيل الذي ضمنه أبياته، وهي خاصية تحسب لعمارة أن يتنقل بين تقلبات تلك المترادفات في المعنى والتصور ويخرج منها بحصيلة قيمة تسجل له فيها الإبداع فعلاً، الكتابة عن جمانة عند عباس عمارة هي ثورة على المألوف، هي الثورة عينها التي أخذته الى أن يستخدم كل الدلائل والبدائل ليرسم صورة تلك الأيقونة التي أتخذها رمزاً للثورة، على الرغم من أنه لم يبينها لنا، وإنما جسد صورتها من خلال الوصف المتداخل عبر وصف الثورة.
وَأَحْلَامِي، تَحْفِرُ الأَشْوَاقَ
فِي كينونات لَمْ تُولدْ بعدُ
أَنَا وَجَسَّدَ قَلَمَي
لَا لبطولاتِ الرِّجالِ
بَعْدَ قتلي شهرزاد
سَأَقتلُ خَوَّفَكُلُّ النِّسَاءِ
وَسَتَجِيءُ القطيعة
وَسَتَكُونُ لَها
عَيْنَاكَ نافذة
سَأَنْفِيَّ عَنْكَ
شهريَار
عمارة اخذ البعد العميق للكلمات فجاءت دالة تامة واضحة، لكنها خيالية بعض الشيء، فحين يقول (سأقتل خوف كل النساء،وستجيء القطيعة)،هذا ما ذكرناه هو خروج عن المألوف في الواقع، فكيف تقتل الخوف عند كل النساء، وهن مصنوعات من خوف، إلا انه في جواب الشرط يسجل رده بوضوح حين يقول وستجيء القطيعة) وهذه هي الحقيقة التي يَرد بها عباس عمارة على تساؤل القارىء بقتل النساء جميعهن.)إلا انه يسدل الستار على حكايته حسب تفسيري، حين يقول (سأنفي عنك شهريار)، وبهذا فقد قدم نهاية الحبكة حين أخرج منها شهريار، وترك جمانة التي لم يتقمص فيها (شهريار) وحيدة وسط هذا التلاطم، والأرداف الجامحة، ودخل من نافذة عيني جمانة الى عالم اللاهوت وكل التخرصات التي تشي بتحالفات وتفاهمات مع قوى غريبة وقدرات هائلة بقصد تحقيق غاية ما، لكنها أمور في الغيب أو ربما غير واقعية أصلا، لا نريد أن نعيب على عمارة تناولها، بل نقول إن زجها في متون النص الشعري لا يخدمه، ولا يطور من المعنى منه في شيء.
هي مجرد أحلام تحملها الأجيال منذ الخليقة حتى نهاية التكوين، للخلاص مما أسموه تقييد الحريات والخلاص للشعوب بالثورات، فلا هذه تحققت ولا تلك آتت أكلها، وبقيت مجرد كلمات في متون القصائد يكتبها عمارة بتصوير رائع، وقد كتبها أيضا من قبله كثر ، وأخذ الموضوع بالتكرار في المعنى والاختلاف في الصورة والتكوين أو ربما حتى في الحبكة، لكنه يبقى مطروق ومكرر.
والسوبرمان العربي
سَأَتَوَاطَأُ معَ شيطان الموت
وسأتخلص من كُلِّ الأَقفاص
وَسَأَعِيشُ
الوُجُودَ
وَالحُرِّيَّةَ
وَسلامي الأبدي
وفي نساء مغرمات ربما نحى عباس عمارة الى منحى جديد أو غير المعتاد، حين قدم نصه بمطلع عن التكنولوجية ، وهي حركة لم اقرأ عن مثلها من قبل، لذا أُسجل السبق عندي فيها لعباس عمارة على من سواه، مطلع عباس في نساء مغرمات كان هائل العاطفة، نقي المشاعر، جميل الأداء، عالي الثقة في الثبات اللغوي والتصوير الشعري.
هو استخدم لغة فذة هادفة واضحة، أكثر دلالة وتحديداً، ولم يترك مطلع قصيدته مفتوحاً على الاحتمال كما في (جمانة حداد)، جاء بالمخاطب بدلالة (نون النسوة) ( لاتطرقين)، وخرج منه الى التحديد المباشر (إلا الى ليلى) التي وصفها (الالكترونية) وهذه الغرائبية في التناول الشعري هي ما قصدته بان لعمارة السبق في تناول التكنولوجية من باب الحداثة في الشعر.
فما هي ميزة ليلى (الالكترونية) هذه التي جاء بها عباس عمارة ليفتح لها باب قلبه الذي يوصد أمام الجميع إلا هي.
نساء مغرمات
كتب على صفحته الالكترونية
"لاتطرقينقلبك
على بابي
لن يفتتحَ
مزار العشق،
إلا، الى ليلى الالكترونية"
تكافحُ، لبلوغَ شاطئ سرَّها
لكنها لم تجد، إلا الظلال
تبتعد عنجاذبيتها الالكترونية.
عمل عباس عمارة على المخاطب في قصيدته (نساء مغرمات) واستخدم النفي والتحديد والتشخيص ليرسم صورة البداية بشخصية غرائبية وهمية ربما عندنا نحن من نقرأ، كون تشخيصها كان عبر الصفة التي منحها لها عمارة بأنها (الكترونية)، وركز على شخصنة الهيئة بمفرداته، - ليلى الالكترونية-، لذلك جاء مطلع قصيدته وكأنه تناول فيه فن الإعلان عن من يحق له الدخول الى مزار العشق الذي ينوي افتتاحه، وحدده وفق الصفة التي تناولها عمارة. لذلك هو استبعد الأخريات من محاولة طرق باب المزار المزمع عقده، مستخدماً النفي (بلا) لكي يغلق الطريق على من تريد أن تحاول عبر صفحته التي خصصت لـ (ليلى) دون سواها. لم يخرج عباس عمارة من صيغة المخاطب بالماضي طيلة القصيدة، وذيل خطابه بالمضارع ليعطيه الاستمرارية في الحدث، فجاء على تاء التأنيث بصيغة المفرد (تكافح) أي ليلى نحو غاية معينة مثلها بالأسرار، إلا انه أبقاها مفتوحة حين قال ( شاطئ) وهذا مفتوح وغير محدد على شيء، وربما يحمل من الأسرار ما يفوق ما تبحث عنه ليلى التي تكافح دون جدوى، فليس هناك إلا الظلال، وهنا جاء عمارة بالتشبيه ليخلق جواً من ألق الكلمة وتأثيراتها وفي ذات الوقت يكرس للاشيء قد تحصل عليه من تبحث في شاطئ مفتوح، ليس فيه إلا تقلب أمواجه، وهنا يعود بعد تسجيل الحقيقة الراهنة (الظلال) لتفقد جاذبيتها الالكترونية ،وربما ليعيدها لحقيقتها المتمثلة بالإنسانة العاشقة.
يحلمُ
في امتلاك جسدها
وهي أكثر إصرارا
لتغيير إلكترونياته المتطرفة
الى معتدلة…
على الأقل
من اجل عالمها
الخاص جداً
المألوف واللامألوف عند عمارة هو بالتحديد الذي استخدمه في صفة ( ليلى)، لذلك عمد الى التمويه على القارىء ليزج الحلم كعنصر مضاف الى التكوين الجمعي للمفردات التي تناولها، ليرسم تصوراً لدى المتلقي بان المشكلة في التكوين ربما تحل باستمرارية الأمل، لذلك لجأ الى الحلم بامتلاكها جسداً، موحياً بأنها تشاركه الرغبة في ذلك الاحتواء والتملك، وربما تكون على غير هيئتها المشخصة إن تَحقق، وحينها لا تَطرف في إطلاق صيغ التشبيه التي استخدمها عمارة كدلالة على التشخيص التصويري للحدث.
"القطيع الالكتروني
بضاعة
يمكن تسويقها للاستهلاك
بعد سحق
دلالتها الإنسانية"
كانت تعي ذلك
بعد أن أصبحت
وجه بارز ، في عالم السلطة
قصائده، صعقت روحها
بسيل من الدموع الافتراضية
كانت تعتقده
قيسحبيب ليلى
في مزارها الالكتروني
طال انتظارها
ولم يأتي
في (جمانة حداد) رسم عباس عمارة ابعاد الرؤية التكوينية لقصيدته على الكلمات الدالة ببعدها العميق ووضوحها التام، واستخدم البدائل والتشبيه ليذهب الى التعبير عن محتوى ما كتب بدقة شاعر مرهف الإحساس بالثورة التي تعتلي مكنونه ،وجاء على الاستعارة والتعويض ليكمل صورة الحدث وفق ما رسم لقصيدته من مسار.
إلا أنه في (نساء مغرمات) كان مباشراً بالتوصيف، ساعياً لإثبات جزئية صغيرة تتعلق بالحلم الذي يرسم للإنسان هدفاً ربما تحقق أو لا، فجاء على المخاطب المباشر بصيغة المضارع الملحق بتاء التأنيث الدالة على المفرد ليخاطب امرأة لا يريدها أن تلج عالمه،، الذي تحتويه (ليلى) والتي أطلق عليها صفة خيالية أسماها فيها (الالكترونية). في كلتا القصيدتين كان هناك قاسم مشترك لدى عمارة هو (المرأة)، وفي كلتا القصيدتين أيضا جاء عمارة على التشبيه والتضاد والبدائل، كما استخدم كل العناصر المكملة للبناء الفني للقصيدة، وفي العموم فأن عباس محمد عمارة أتقن ماكتب، وأبدع في الوصف، وأجاد في انتقاء كلماته التي اتشحت بموسيقى شعرية جميلة لتكتمل عنده الصورة.