شكل الواقع المعاش في قصصه هاجساً جسد من خلاله حياة الفقراء
عالج عبر الحركة والتأويل رؤيته الفنية ولم يحدد إبداعه الشكل والمضمون
لم يبتعد المرحوم كاظم الأحمدي في رواياته الثلاث عن المدينة التي عرفها وعاشها هاجساً في داخله، مستشعراً معاناة أهلها (الفقراء) كواقع كرسه في تفاصيل العمل الفني الذي أجاد فيه وأبدع.
فقد اصدر الأحمدي ثلاث روايات حملت جلها عبق الماضي الذي اتخذ منه مساراً لعمله الأدبي عبر عنه بتقلبات الحاضر وتداخل الرؤى، وتنوع الأماكن حتى صور الواقع مستوحيا صوره من ذاك الماضي الذي شحنه بدفعات من الحنين لزمن مضى عبر التأويلات التي مارسها الأحمدي ليخرج بذلك النمط المتفرد عنده دون سواه، ولم يحدده في عمله شكل الرواية ولا حتى مضمونها.
عالج كاظم الأحمدي العديد من المشاكل الاجتماعية عبر رواياته ومجموعاته القصصية، إلا أن الجامع أو القاسم المشترك فيما كتب هي أن سطورها كانت عبارة عن حاضنة شعبية لمعاناة الفقراء والمعوزين من أبناء الطبقة العاملة وفقراء المدينة ربما لأن الأحمدي عاش في وسط تلك المعاناة، وخرج من رحم تلك البيئة (المعقل) وهو الميناء الذي كان رئيس في البصرة، والذي يعج بحركة الفقراء من العمال الذين يدورون في فلك مينائهم الذي يشكل شريان الحياة الدافق بالنسبة للمدينة.
تلك الصورة ركزت في ذهن الأحمدي وباتت تؤطر لفهم الحياة عبر حركة عمال الميناء، وما رافقها من تقلبات الواقع السياسي والاجتماعي الذي عاشه العراق أبان فترة الستينات من القرن الماضي، وهي الفترة التي تفتحت فيها ذهنية الأحمدي وقريحته على الأدب وبدأت بعدها تخرج بواكير أعماله التي رأت النور في السبعينات التي تلتها أثر تداعيات كثيرة بين ما يكتب ووزارة الإعلام التي تمنع وتسمح وضاع على أثرها الكثير من الأدب القيم والنافع أمثال ما دفع به الأحمدي للنشر وشمله المنع كما غيره من الأدباء.
الأحمدي إن صح التعبير قد شكل الواقع الذي يعيشه الفقراء لديه هاجساً جسد من خلاله حياتهم بصورة متقنة لا تحتمل الشك كونه يتمثل حياتهم بصورة دقيقة، وكونه جزءً من أولئك الفقراء، ما يضفي على أدبه صورة الواقعية الفعلية للأدب، ويبتعد عن الرمزية الوصفية التي تبناها الكثيرون وأسسوا من خلالها أطر رواياتهم وقصصهم.
عالج الأحمدي في روايته الجميلة (رض القهرمان) تأويل الرؤى وحركة الزمن بتداخل رائع وصف بالفلسفي وهو يستثمر معالجة الزمن عبر حركة لا تعتمد تحديدات الشكل، ولا تؤطر مسيراتها شكلية المضمون الذي يتناول الحاضر بآلية الماضي، وهي الميزة التي انزوى فيها الأحمدي ليخلق إبداع نموذجه الأدبي عبر تشابك التجارب وربما تقاربها ليستخلص تجربته من خلال واقع ثري مليء بالمختلف من الأفكار والتجارب، وليلج منه الى حاضر كتب عنه كاظم الأحمدي بإتقان.
ذهب الأحمدي رحمه الله للكتابة بدافع حب الماضي، إلا انه لم يتركه كما هو ماضي انتهى وأفل نجمه، بل العكس هو أحيا فيه جوهر الحياة ليبعثه من جديد بألق الحاضر، ويستوحي منه تفاصيل عشق جديد لحياة أخرى مستمرة على دفق ذلك الاستذكار، ربما من معتقد أو حادثة أو حتى فكرة، لينشئ منها بناءً فنياً جمع فيه عناصر الرواية الدالة على اكتمالها وصيرورتها بشكلها الفني والأدبي، حتى لا يعاب على الأحمدي فيها من شيء يضعف من بنائها الأدبي أو الفني، لتظهر رواياته وكأنها صبت في قالب فني جاهز لا يحتاج الى عناء.
وظف كاظم الأحمدي المطلق في الماضي، وجسد لحظاته بحراك حالي لا تشمله صفة الماضي، فركز على حركة الزمن ليخرج بسيل من تدفق الرؤى، وتداخل الصفات والشخصيات، حتى ذهب الى أن جسد شخصية الراوي عبر صفة الملك بمزج جميل جعله مرة يروي، ومرة مروي عنه، وهذا التداخل في الصفة والأدوار في الرواية ربما قل ما مررنا به، لينقل لنا الأحمدي تجربة لا نقول متفردة بل من قلائل ما مر بنا في الأدب والرواية.
ولم يكن ذلك التداخل هو الفعل الوحيد الذي وظفه الأحمدي في الرواية كتوظيف حركي تمثل بتداخل الشخصيات، بل ذهب الى أن يكرس في طيات صفحات روايته (أرض القهرمان) تداخل أخر مثله في الأماكن وفرض صيرورتها المكانية على واقع الرواية، ليخلق ما يشيبه الأسطورة حين جسد الأسرار التي مثلها بالصناديق المغلقة، وهي ما تمثله الأماكن المغلقة مما تحويه من أسرار.
توصف أرض القهرمان بأنها رواية احتوت الكثير من الأسرار التي كرسها الأحمدي في ثنايا السرد، جاعلا من شخصية البطل عبر التداخل السردي ليشكل من قصته عالما غريباً يعكس في جوهره الحياة، لكنه يرمز في مضمونه الى الواقع، ويلج منه الى الاستدلال بمعناه الشكلي حين يجسد شخصيات بعينها، ويستخدم اللحظة الفارقة في تشكيل نصه الدرامي أو السردي.
أصر الأحمدي على استدراج اللحظة التاريخية ليعيد صياغتها وفق المتغيرات الزمنية، وينشأ منها توصيفاً للمعاش عبر حركة الزمن، ويظهر منها باتجاه متقلبات النص وحركاته الفعلية، وليخلق نصا مؤثراً في سياق الحدث تملئه الخبرة ويمتاز بالمتقن، ما يضفي علي الرواية عملية استحضار الرؤى التاريخية وتوظيفها في خدمة النص وتفاعل السرد مع الحدث الدرامي لخلق التولد ات التي أفضت الى اختفاء معالم الماضي من الزمن، وانصهاره في بوتقة الشكل الدرامي للرواية والتي استطاع الأحمدي أخراجها بإتقان.
ومن هذا المتقن في العمل الأدبي الذي دفع به الأحمدي ليبرز عنصر التشويق في الحدث من خلال توصيف العدو الذي أضفى عليه وصف (الذئاب) ومنه رام وصف حدث عظيم وقع في زمن غابر (موت الملك) ليصل الى نهاية حقبة وبداية أخرى، أي أن الأحمدي ذهب لتوظيف الحدث بصورة معبرة تبقى عالقة في الذاكرة ليرمز الى بداية حقبة جديدة عبر تغير الزمن وتبدل الوجوه والأحداث، وهي عملية توظيف المتناقض من المجريات لتثبيت صورة الحاضر، وهو ما أعتاد على تفعيل حركته طيلة فترة السرد التي اشتملت عليها الرواية.
جسد كاظم الأحمدي رحمه الله واقعية السرد وتزاوج الأزمنة في الرواية باسلوب ارتقى بالعمل دون أن يضع فرصة للآخرين لوصفه بالضعيف ،عبر الترابط الذي استخدمه فيما بين تغير الأزمان أو تبدلها، وكرس عبر التداخل الزمني بين الماضي والحاضر، الداخل والخارج، المدينة بشقيها المترفة، والفقيرة (قصر الملك والمدينة) ليورد تسلسلا منطقياً هادفاً عبر الوقائع التاريخية التي داخلها مع السرد بما فيها الرمز الديني، حتى تحكمت ببنية النص ليخرج منها الكاتب بإضاءة هادفة تضفي على الأرض القدسية التي تحكم أسباب البقاء.
أجاد الأحمدي بترك الأثر الخالد عبر السردية التي استخدمها في الرواية، والتداخلات التي كرسها روايته بنجاح تام، حتى ذهب كما يقول البعض نحو خلق وعي حركي ونوعي على مجريات السرد موظفا المؤثرات الحسية التي تفاعلت مع عناصر روايته لتخلق الاستجابة المطلوبة لدى المتلقي عبر نص مزدوج ومركب، وقراءة واعية للأحداث التاريخية دون أن يبتعد عن رونق وجوهر الرواية، بل ليكرس بعداً وصفياً جميلاً في ثنايا روايته.
نشر الأحمدي بعض قصصه بداية سبعينيات القرن العشرين، بعدها أصدر مجموعته الأولى ''هموم شجرة البمبر'' اتخذ الأحمدي عالم الناس البسطاء عالمه الذي يسرد تفاصليه بإيثار، وليخرج منه بتفاصيل الواقع المعاش ويزجه أدبا واقعياً في عالم السرد.
ومن ابرز روايته (أمس كان غداً، نجيمات الظهيرة، تجاه القلب، قصر الأزلزماني).
وله عدة مجموعات قصصية صدرت عن دار الشؤون الثقافية ببغداد منها:
(أرض القهرمان، هموم شجرة البمبر،
طائر الخليج، غناء الفواخت، وغيرها).