بنى مضمونه على تخيلات الصورة المرئية عبر الخيال
- امتلك طالب عباس قدرة التأثير الحسي والتصوري على القارىء
مضمون قصيدة طالب عباس هاشم (رحيق الروح) بناه على تخيلات الصورة المرئية عبر الخيال (التصور)، وكل نص يعتمد هذا النوع كبناء للقصيدة، يكون قد اعتمد على السرد الحسي أو الملموس في فناء القصيدة، لذلك نجد طالب عباس هاشم قد ذهب الى تحقيق التصور الذهني لدى القارىء باعتماد الصورة الحسية، قبل أن يفكر في التأثير على المتلقي بقافية أو وزن، استناداً الى المقولة التي ثبتت صحتها والقاضية بان تأثير الصورة أدل من ألف كلمة، ولا فرق إن كانت الصورة مقروءة أو مرئية، فكثير من الصور نقرأها ولا نراها.
ضمن هاشم مطلع قصيدته بحركية البطل (إن جاز لنا) فالقصيدة أشبه ما تكون سيناريو معد ليترك تأثيره على القارىء كما غيره من النصوص،ناقلاً آياه بين طرقات المدينة، وللدلالة على تقريب الشخصية وليس تغريبها جاء على استخدام التخصيص كفعل دال على المعرفة وليس المجهول فقال:
(مدينته)، لكن هذا التعريف بقي مبنياً للمجهول طيلة الفقرة الأولى من القصيدة ( المطلع)، نعم هو ينتمي للمدينة التي جاب شوارعها قطعاً، ينتمي لعوالمها، لتكوينها، وربما لأرثها وتاريخها، أو ربما كان قادماً وافداً عليها من مكان أخر، لكن وبفعل الزمن بات جزءاً من تكوينها، لذلك يعرف بها بإنتماءه ، ويقال ( مدينته) لكن من هو.
وهنا يكون الإبداع في استخدام المبني للمجهول، ويكون مقبولاً ايضا في ثنايا السرد القصصي الذي جاء عليه طالب عباس هاشم، وليترك لنا صورة أحسسناها قريبة منا ، تعاطفنا معها منذ بداية القصيدة ونسينا أن الشخصية التي تفاعلنا معها مجهولة الهوية في مطلع القصيدة على اقل تقدير.
وفي تلك الصورة التي ذهب بنا طالب عبرها الى المجهول، جاء على استخدام الخارق فوق العادة (لا تتعب قدماه)، مازجاً إياه بالمجهول مرة أخرى (ليس الى جهة، أو من جهة)، وداخل هذا كله مع ما وراء الواقع، فدفع بالحلم ليرافق البطل المؤمل المجهول في مَسِيره الحزين (وكل صنوف الحزن)، ليختم جدلية هذا المزج المفضي للحيرة بالهذيان والصمت والعودة للوحدة ( يهذي ، يصمت، يعود لوحدته).
يقطع ُ طرقات ِ مدينته
لا تتعب ُ قدماه ُ من السير ِ
يظل ُّ يسير ُ يسير ُ
وليس َ إلى جهة ٍ أو من جهة ٍ يبدأ
خط ُّ مسيرته ِ
وتسير ُ برفقته ِ الأحلام ُ وكل ُّ
صنوف ِ الحزن ِ
يغني ويصيح ُ .. ويهذي
يصمت ُ
ليعود َ لوحدته ِ
ومن المجهول الذي بنى عليه طالب عباس هاشم صورته الشعرية المجنونة بألق دون تأطيرها بقافية تحد من أناقتها ورونقها الحسي وشاعريتها، وأبقاها مفتوحة على المبني للمجهول حتى آخر حرف فيها، طل علينا في الجزء الثاني من قصيدته (رحيق الروح) ليفاجئنا بنص محكم ملتزم بقافية جميلة تشعرك وأنت تقرأه وكأنك تتنقل بين بستان من الزهور قد تأخذك إحداها انبهارا بلونها، لكن الثانية تجذبك رائحتها الزكية وعطرها الأخاذ ،فتحار أيهما تصف جمالا.
هذا ما شعرت به وانأ انتقل الى الجزء الثاني من قصيدة طالب عباس، تبدل القافية كبستان تلك الزهور ورغم انه كان يصف مجيء الحزن، إلا أن الصورة التي رسم بها حروفه كانت كافية لرسم لوحة قادرة على التأثير الحسي والتصوري لدى القارىء وبدقة، عبر كلماته المنتقاة بدقة متناهية وجمال رائع، واللحن الذي ضمنه قافيته بالنسق المترابط المكمل لتلك الصورة، فجاءت فعلا مكتملة المعنى والتصور، وهنا أسجل إعجابي الشديد بما صور طالب عبر حروفه من مقطع.
حين َ يجئ الحزن ُ إلينا
يطرق ُ باب َ الدار علينا
نهرب ُ منه إلى الطرقات
ونرش ُّ الأرصفة َ الأولى بالأزمات
بالصدمات
أو نتذكر ُ وجها ً مات
وإذا خمدت نارُ الحزن ِ قليلا ً
نرجع ُ دوما ً دون كلام
فنرى الحزن َ
تمدد قرب الباب ِ ونام ..
أبدع طالب عباس هاشم بدقة اختياره لمفردات قصيدته التي أوفى في تناولها، مستخدماً أسلوب السرد بكل عناصر بناء القصيدة التي بنى هيكلها اعتماداً على المبني للمجهول، مكرساً جهده على التصور الحسي الذي يخرج منه الى فضاء التصور الملموس بحرفية الفنان الذي يتقن رسم اللوحة المتضمنة صورة غير نمطية لبناء التكوين العام للقصيدة .
ومن ضمن جزئية السرد التي اختص بها هيكلية القصيدة ، تناول طالب عباس المشاعر المتداخلة في النفس ليعبر عنها في بكائيته في جزء القصيدة الثالث،وليجسد مشهد مشاعر متناقضة تألفها النفس البشرية وتتعامل معها الروح الإنسانية بطرق شتى، لكن في غالبيتها العظمى تبدأ بالصمت كتعبير عن استهجان فكرة بعينها أو موقف بذاته، لكنها تنتهي غالباً بالصمت كشعور معبر عن الاحتجاج والرفض في اغلب الأحيان.
لذلك لجأ عباس الى القول ( كلما) كرغبة، يقابلها عدم القدرة متمثلة في ( لا استطيع)، وهذا المتناقض في التوظيف يدفع الى استخدام البدائل كتعبير عن الحالة، فالصمت حالة معبرة ، كما هو البكاء يشي بتعبير أخر عن حالة أخرى.
فيما جعل الصمت صوتاً هادراً مسموعاً عبر المخاطب الذي سبق (يا أبتِ)، وعاد ليزج التناقض كصفة جعلها مخرج لحيرة القارىء وفك للرمز المبهم فقال:
(اصرخ كي لا أزعج الآخرين).
تناقضات الحالة دلت على الموصوف في نص هاشم عباس بقصديه أرادها الشاعر ليغلف بها الشعور الحسي ومرادفات المعاني التي جاء عليها بنص القصيدة ، وليخرج منها بتشكيل الصورة المعبرة عن أجواء وحبكة القصيدة بالمجمل .
كلما شعرت ُ بحاجتي إلى البكاء
لا أستطيع ُ أن أبكي
ولهذا أبكي
يا أبت ِ الترابي
تخليت ُ عن صمتي الذي كنت تسمعه ُ
أجل كان صمتي عاليا ً
وها أنا اليوم أصرخ ُ
كي لا أزعج ِ الآخرين
ومن البكائية التي أوردها في جزءه الثالث، دخل الى الشكوى كحالة تعبير أخرى، ضمن الهيكل العام للقصيدة التي تقلب فيها مابين المبهم الى الصريح عبر الحزن، ثم الصمت، وصولاً الى الشكوى التي ضمنها فقرته الثالثة، وهنا نسجل له التنوع في اختيار الحالة والتعبير عنها بدقة في متن القصيدة، دون أن يسجل عليه ركود في المعنى أو حتى في اختيار المفردات.
عملية استدراج القارىء لاستذكار ما مضى بحكم الزمن ، هي بحد ذاتها عملية متعبة لابد ممن يلجأ إليها أن يكون على دراية بعناصر الحبكة أو عناصر بناء التكوين الشمولي للقصيدة ،كي يخرج بحصيلة ترضي الجمهور، وأن تجسد الإبداع في عملية التوظيف، وهنا تدخل الحداثة في تكوين النص وعدم الانجرار وراء القوالب الجامدة القديمة التي يصر البعض على عدم الخروج منها عند الكتابة، نقول استطاع طالب عباس هاشم أن يتمكن من التحكم بمشاعر القارىء عبر نصه فذهب لصياغته وفق ما اشتهى له، لا وفق ما يريد القارىء، وهذه هي عملية الإبداع.
مولاي أبي..
أتعبني زمني
والى الآن أرى قلبي يتمناك
إلى الآن أراك تجئ
بكل هداياك إلي َّ
كان خرافيا ًوجهك في أرصفة (الفاو)
وأنت َ تغادر ُ.