- تقلبات المعنى عند الياسري دالة واضحة لعدم اعتماده القالب الجاهز
- الالتزام بوحدة النص و تعدد المضامين أخرجوه من التقليد
بدء علي إبراهيم الياسري قصيدته (يوميات شرقي) بسؤال استفهامي، ما يعني إن مطلع القصيدة بني على شطرين سؤال (يحدث أن اختصر الحب)، وهي صيغة إخبارية أجتزئها الشاعر لتكون جملة استفهامية يبدأ بها قصيدته على غير المعتاد، أو بسؤال صادم للمتلقي، ستكون ردة فعل القارىء على جملة الياسري (كيف)، فيتحقق جواب الشرط الذي كان مهيأ منذ البداية، ومؤكد لا يقف القارىء عند الاستفهام بالصورة التي اشرنا إليها بسبب الاستمرارية في القصيدة، ليجد الجواب، (بمحادثة عابرة) وهي التي تمثل جواب الشرط المنتظر.
ويسترسل الشاعر في الأجوبة عن السؤال الذي ضمنه في أول بيت من قصيدته، ليأتي على سؤال أخر (أن اعبد ألاه)، ليرد على التساؤل بحيرى متصلة تبدأ من أول القصيدة حتى أخرها، اعتمد فيها علي الياسري على السؤال والجواب، على غرار قاعد (الفعل ورد الفعل) في الفيزياء، إلا إن معادلة الفيزياء في الشعر التي جاء بها الياسري احتوت على دقة الصنعة وتواصل المعنى وتفسير المبهم، والنسق الموسيقي للسؤال تتبعه الإجابة.
استفهامية علي الياسري جمعت تفاصيل عدة، منها ما يتعلق بالدنيا، والدين، والحب، والتصور، والتقلبات النفس وما يؤثر فيها وعليها، فلسفة النفس البشرية.
وهنا نريد القول أن هناك ميزة في جيل الشباب من الشعراء ربما تشكل القاسم المشترك فيما بينهم بكتاباتهم التي نقرأها اليوم، ألا وهي ميلهم لان تكون أغلب كتاباتهم تنحى نحو (الاستفهام) ومنه الى التشعب، أي أن وحدة الموضوع لم تكن من اهتمامات الجيل الجديد في الشعر، نعم التنوع مطلوب، لكن وحدة المعنى ضمن القصيدة الواحدة هو مطلب مُلح لتثبيت الفكرة وتواصلها وسلاستها وفق الحبكة التي يقتضيها النص، وهنا أيضا لابد آن نقول إن علي الياسري ورغم التنوع الذي كتب فيه قصيدته، إلا انه كان ملتزماً بوحدة النص، على الرغم من تعدد المضامين التي أتى بها في نصه ما أخرجه من التقليد.
ورغم إبداعهم كشباب في تفعيل النمط الشعري على غرار ما أخذوه من الرواد، إلا إنهم أرادوا أن ينتهجوا طرقاً أخرى تسجل لهم كجيل جديد، وتضاف الى ما سجله الرواد في ميدان الشعر الحر، هي ليست سبة على الشعراء الشباب بقدر ما هي مؤشر لحالة قد تخرج عن النمطية السائدة في القالب الشعري المنصوص عليه.
تعددت مضامين المواضيع التي تناولها الياسري في قصيدته (يوميات شرقي)، فقد بدء بالحب ،وأنتقل الى الدين، ومن ثم قفز الى المسرح، والشخصي، وذهب الى العلاقة المتشابكة في حب الجسد، فالموسيقى، والنوم، ومن ثم أنهاها بالنقد الهادف.تقلبات المعنى في قصيدة الياسري هي دالة واضحة على عدم اعتماده على القالب الجاهز، أو التأثر بقضية معينة ناتجة عن إثارة حسية أو نفسية تدفعه لتبني حدث معين ليكتب في تفاصيله بانعكاس الأثر النفسي للشاعر على الحدث، ومن ثم يخرجه على شكل قصيدة تبدأ بالحدث وتنتهي به.
فعلى العكس ترك علي الياسري ردة الفعل التي يخلفها الحدث، ليكتب بتجرد واضح من كل تأثير، حتى جاءت قصيدته متنوعة هادفة، تشي بمضامين عدة ليس اقلها طبعاً الفلسفي، عملية الخلق في بنية القصيدة وفق الحداثة التي يعمل عليها الشباب تتماشى وحركة العصر اليوم، والذي بات مضطرب متسارع في كل شيء يحويه، فَلِما لا تتسارع وتيرة النسق الشعري أيضا، ولكن دون المساس بالأسس كما ذكرنا، نحن مع تطوير المساقات الأدبية عامة، ومنها الشعر لكن علينا آن نحافظ على الجذور فهي الأصل في بناء المشهد الأدبي العام، والشعري خاصة.
لذلك حين نجد في قصائد الشباب من يتبع هذا النهج نساعد على دفعه الى الأمام وصولاً لمؤازرته وتشجيعه ليخرج بحصيلة نافعة في الميدان، ولتكون ركيزة للأجيال الجديدة وما بعدها، فقد قدم جيل الخمسينات من الرواد مشهداً جديداً ونسقاً رائعاً في الشعر، حين جاء بدر شاكر السياب رائد الشعر الحر ومثله نازك والبياتي وعبد الرزاق عبد الواحد وأمل ودنقل عبد الرحمن الابنودي وغيرهم الكثير، حتى كرس هذا النوع من الشعر كمنافس للشعر العمودي، بل تفوق عليه في العصر الحديث لكثرة مناصريه ومتابعيه، في حين ابتعد أو انزوى نجم القصيدة العمودية بالمطلق لو لم يحيها الشاعر المبدع المرحوم عبد الرزاق عبد الواحد بروائعه الخالدة.
يحدث أن اختصر الحب
بمحادثةٍ عابرة
أن أعبد إلها
لا يعرفه أحدٌ سواي
اعتمد الياسري محوراً رئيسياً لبناء هيكل قصيدته على (الأنا) ليس من باب التعالي، وإنما لتوصيف التجربة التي أراد أن يرسم ملامحها للقارئ بصورة سلسة ن فجاءت أبياته مبنية على التكوين الشخصي (أنا) فدفع ب (أن) التي تفيد الاستدراك، ليعطي القارىء فسحة الفهم المطلق مما أراد بالاختصار الذي تمثله (أن)، جسد الياسري العزلة التامة كصفة تعبيرية عما يدور من أحداث حوله (أمثل دوراً)، (اصفق لنفسي)، وهي انعكاس لما يعتمر من آسى في نفس الشباب للإحداث التي يعيشها العالم ومن ضمنها بلدانهم التي يعيشون فيها، وتحديداً العراق.
هذا التعبير كان لزاماً أن يكون في سياق القصيدة سيما وإن الياسري ينحى فيها ولو بإشارات قصيرة الى الفلسفة، ولو لم يكن لن يكتمل معنى القصيدة ولا شكلها، ولجاءت باهته لا تطرح شيء سوى حشو الكلام.
أراد الياسري لقصيدته أن تكون ذات مغزى، وان يكون موضوعها هادفاً فجاء على تواصل الفكرة مع الحدث، وتلاقي الهم العام مع هموم من يكتب ن ولو لا استشعاره بهذا الجو المشحون والموازي لشيطان الشعر كما يقال لما كان موضوعه معبراً عن الحالة التي قدمنا وصفها لقصيدة الياسري.
ولم يبتعد علي الياسري عن فيض الإحساس لدى الشباب، فأدرج هموم الجسد وفورة الشباب، كهم أخر لابد من مناقشته على أوراق الشعر، فجاء يعزف موسيقاه مقاماً ليهدأ اندفاعه وفي أوقات محددة ( مقاماً يعزف آناء الليل فقط).
أن أمثلَ دوراً
واصفق لنفسي
أن أفتش عن مداخل
لاحتلال جسد ما
أن أُهدى شهوتي
مقاماً يُعزفُ
آناء الليل فقط
جدلية الرفض والانتفاض على واقع معين عند الياسري تبدو واضحة في فقرة (أن أكون كما لا أريد)، وفيها استهجان غير مباشر لما يحدث، فالشباب بطبيعتهم ثورة على واقع غير مألوف، وهو ما مثله الياسري باختصار هذه الثورة بكلمات دلت على نفور الإنسان بداخل الشاعر لما يواجهه من مجريات الأحداث اليومية التي تجري في الشارع، فعملية أن أكون كما لا أريد، تعكس الرغبة بالاعتراض على ما أريد لي أن أكون رغماً عني، وهي طبعا نقيض ( ما أريد) ولا يتسنى لي أن أكونه.
وهذه معادلة صعبة لا يقوى الإنسان العادي التعبير عنها، إن لم يكن شاعراً رغم أن حيز الشعر محدود في التغيير، لكنه موقف لابد للشاعر المتفاعل مع الحدث أن يسجله في سجل حياته ليؤشر فيما بعد كنقطة لصالحه لا أن تحسب عليه.
أما عن الحب وهي حالة من ضمن حالات الانفعال النفسي، ومن ضمن تنوعات ما كرس الياسري قصيدته له، جاء ليسجل صورته الشعرية عنها بوصفه عاشق فقال (يحدث أن افرش ما يلائم بشرتها)، ويحدث تفيد تحديد الزمن أي ليس كلياً، بل في مرات معينة، لكنها لا تنفي استمرار الذكرى، وخلود تجربة الحب.
عمل الياسري على التخيل الواسع، فرسم صوره الشعرية بصورة متقنة دفعت القارىء لتصورات عدة، فتحها بسيل من الأسئلة التي سرعان ما أدرج عنها إجابات مغرية، ثم عمل على التنوع في المواضيع المتناولة ضمن القصيدة الواحدة، ليخرج بحبكة متعددة الأهداف، وتحوي تنوع في الصورة الشعرية التي زينها بانطباعات شاعرية رافقتها موسيقى النص التي تزامنت مع اختلاف المعنى الذي ضمنه فقرات القصيدة.
دفع بصيغة المتكلم في أكثر من مكان ليحتوي تباعد الفكرة ويسلبها فرصة الضياع الذي قد ينتاب الفهم نتيجة التعددية، إلا كان حاذقاً في لملمة التفاصيل التي رافقت النص ليعود بها الى وحدة النص الشعري بموسيقاه العذبة التي أفرزت ذوقاً مترفاً وفناً صادقاً في ترتيب النصوص وحبكة القصيدة التي بنى عليها التصور وفق مفهومه الشعري الذي عمل عليه دون أن يخرج من وحدة النص أو أي من القواعد المتفق عليها.
قصيدة (يوميات شرقي) جسدت معنى التخالف والتضاد في المشاعر، بحركة منظورة هادفة جاءت الصورة فيها مكتملة ومفهومة بسلاسة كما أراد لها علي الياسري، وطرحها باسلوب التناقض الصوري والاختلاف.
الإدانة للعنف ونبذ فكرته، والاتجاه للعزلة اثر الصدمة التي خلفتها شعارات الإنسانية وحقوق الإنسان وما شابه كلها كانت دافعة لجيل الشعراء الجدد لتبني فكرة الرفض في قصائدهم ن وإدانة ما يحدث بلغة ساخرة ويصولون عبرها ما يريدون الى الجمهور، لذلك كانت أشعارهم أشبه بالتمرد على الواقع الذي فرض عليهم رغم إرادتهم.
يحدث أن أفرش ما يلائم
بشرتها
وأنام وحدي
يحدث أن أكون كما
لا أريد
يحدث كثيرا.