كان في مدينتي الاولى رجل غني حدَّ الثراء
وقد كان ذلك الرجل يملك ﻋﻤﺎﺭﺓ ﻛﺒﻴﺮﺓ وشاهقة تعانق الافق الأزرق الشاسع.
ولكنَّ الغريب في أمره؛
هو انه ورغم امواله الوفيرة فقد كان يسكن في بيت صغير،
كان قد شيّده من جذوع النخيل وسعفه، وكان قد بناه بجانب عمارته العالية.
اما انا – ذلك الفتى الدائم السؤال والحالم والباحث عن معرفة احوال البشر ؛
فقد كنت اشعر بشئ من الحيرة في أمر ذلك الرجل
وذات مرة وحتى اتخلص من حيرتي وأسئلتي وهواجسي؛
تجرأت ورحتُ أسأل ﻋن حال ذلك الرجل
فقيل ﻟﻲ:
ﺇﻧﻪ ﻻ ﻳﺤﺐ العيش في عمارته التي يمتلكها؛
لانه يحب بيته ﺍﻷﻭﻝ ولايستطيع ان يعيش في بيت غيره.
إن ﺑﻌﺾ ﺍﻟﺒﻴﻮﺕ كالحب ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ لايمكن ﻧﺴﻴﺎﻧﻪ ﺃﺑﺪﺍ ...
ﻭﺑﻌﻀﻬﺎ مثل اولئك الناس الذين يحدث ان ننبهر برؤيتهم او اللقاء ﺑﻬﻢ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﺼﻒ العمر ولهذا نتعامل ﻣﻌﻬﻢ ﺑﺤﺐ ﻟﻜننا ﻻ نتواعد ﻋﻠﻰ ﺷﻲﺀ محدد..
ﻭﺑﻌﻀﻬﺎ ﻛﺤﺐ ﺟﺎﻣﺢ ﺗﻨﺬﺭ ﻟﻪ ﻋﻤﺮﻙ من أول لقاء ﺑﻼ ﻣﻘﺎﺑﻞ ..
ﻭﻛﻞ ﺣﺎﻟﺔ ﺣﺐ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ نجد ﻟﻬﺎ مقابلاً كما ﻓﻲ ﻋﻼﻗﺘﻨﺎ ﻣﻊ ﺍﻟﺒﻴﻮﺕ والاوطان.
وكما قالت احلام مستغانمي ذات نص ان "ثمة مدنا تسكننا وأخرى نسكنها " فثمة بيوت تسكننا وأخرى نسكنها..
وأجملها ليست تلك اليوت والمنازل التي تفتح لك قلبها عندما تفتح الباب..
ولكنها تلك التي ستسكنك إلى اﻷبد كحب سرمدي لايمكن إقتلاع جذوره حتى بكتاب مثل (نسيان. دوت كوم )
رواية مستغانمي الفنتازية الشهيرة ."
وجمال البيوت دوما في مَنْ يقتسمها معنا..
وثمة بيوت حتى وهي أنقاض وأطلال فهي أحب إلينا من القصور الباذخة .
ألم تقل الجارية للخليفة اﻷموي حينما عرض عليها حياة القصر والرفاهية:
(لبيت تخفقُ اﻷرواحُ فيهِ
أحبُّ إليّ من قصرٍ منيف )
وأنا ارى وأشعرُ أن أكل كسرة خبز صغيرة في بيتي الاول أحب إليّ من أكل رغيف في بيتِ بالغربة والمنافي التي أكلت قلبي بوحشتها الفادحة.
وهنا أتذكَر ان ابا الطّيب المتنبي كان قد قال عن أطلال بيوت أحبته:
( لكِ يامنازل في القلوب منازلُ
أقفرتِ أنتِ وهُنَّ منّا أواهلُ )
والعرب أكثر الناس تعلقا ببيوتهم وبيوت أحبتهم ..
وأظن لهذا السبب تتوسع اﻹستعمارات والاحتلالات في عالمنا العربي بقصف وجرف البيوت ﻷن المستعمرين والمحتلين يعلمون أنهم بهذا الفعل، يكونون قد قتلوا أصحاب المنازل أكثر من مرة..
وقد قتلوا معنويا أحبابهم وجيرانهم واﻷحياء منهم؛
قبل أن يعودوا ويقتلوهم في مرة قادمة.
واﻷدب العربي مليء بالشواهد على تعلّق العرب بمنازلهم..
وها نحن تنزف قلوبنا كل يوم عندما نشاهد ملتاعين ومجروحين ماتعرضه الفضائيات من البرامج الوثائقية عن المهجرين واللاجئين الذين يحتفظون بمفاتيح بيوتهم التي طردوا منها ولم تطرد من قلوبهم لقرون؛
نحن نمتلك قلوبا تطفح بالعاطفة تجاه بيوتنا وأراضينا ولكن تنقصنا القوة والعقلانية التي تساند عاطفتنا حتى لانصاب بالخيبة والوحشة والوجع الجارح.