للكاتبة الفلسطينية التي تقيم في مونتريال بكندا:
نوال حلاوة، صدرت قبل فترة روايتها الملحمية “الست زبيدة”، لتنضم إلى الروايات التي تشتغل على السرد- سيروي، حيث ان الرواية جاءت على شكل سيرة، أو مجموعة سير، توثق للأسى الفلسطيني قبل النكبة وبعدها، بخلفية انثوية، هي خلفية الست زبيدة، بطلة الحكاية الأم، وحاملة حبل الحكي، تقطعه حينا وتعيد ترتيقه، ونظل نتابع ما يحدث.
منذ البداية، ومنذ الصفحات الأولى للرواية، أحسست بأنني أمام سيرة روائية، ربما هي سيرة المؤلفة نفسها، وربما هي سيرة متخيلة لشخصية عاشت في الزمن والظروف نفسها، ولن تكتب سيرتها إلا بهذه الطريقة.
كانت يافا هي المكان الأول، مكان المولد، مكان الشهقة الأولى والدهشة الأولى، الذي لا بد سنتعرف إليه جيدا، عن طريق تلك البطلة الصغيرة، التي لم تسم زبيدة أو الست زبيدة، بلا هدف ولكن نتيجة رؤيا حلمية من والدها التاجر، ولإعجابه الشديد بزبيدة زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد، وكيف شهد زفافها إليه في الحلم، واضطرب من فخامته واستيقظ بعد ذلك على أنين زوجته التي كانت في لحظة المخاض، حيث ولدت زبيدة في ذلك اليوم.
إنها فقرة من مصادفات الحكاية، أن تشاهد رؤيا حلمية لشخصية ما، وتولد في اللحظة نفسها أو في اليوم نفسه، أنثى ستحمل اسم تلك الشخصية كما كان يتمنى والدها، لكنها مصادفة مشروعة بلا شك، ولطالما كانت في الروايات مصادفات كثيرة، أشد غرابة.
لقد اعتمدت المؤلفة اسم زبيدة الذي يبدو لي غير مألوف في منطقتها، وربما أيضا لم يكن عصريا، في زمن ولادة الست زبيدة، أو الساردة. ولا صيحة من صيحات الموضة كما يحدث لبعض الأسماء حين تقفز فجأة، من ركود طويل لتصبح موضة يسميها الجميع، كما يحدث في هذه الأيام بعودة اسماء مثل آدم وحواء إلى السيطرة على أسماء المواليد الجدد.
لذلك أسهبت المؤلفة كثيرا وأفردت صفحات عدة، لتعطي الاسم الغريب مبررا كافيا، حتى يمر إلى أذهان القراء، ولم يكن ذلك مطلوبا في رأيي، فقد مر الاسم سلسلا وكان مناسبا جدا للشخصية المرسومة ويشبهها كثيرا، ولطالما ذكرت في كتابات لي من قبل، أنني أؤمن بأن الأسماء تشبه الشخصيات في الكتابات الحقيقية والمدهشة، ورواية السيدة زبيدة منها.
قلت إننا عن طريق تلك البطلة الطفلة، التي ولدت كأول فتاة وسط صبيان البيت، استطعنا تتبع عشرات الحكايات، بعضها يرويها الأب التاجر، الذي يسافر كثيرا ركضا وراء تجارته، وكان يصطحب معه الراوية دائما، بوصفها جالبة الحظ عنده، وأيضا يستشيرها في بعض الصفقات ودائما ما يكسب بمشورتها.
بعض الحكايات ترويها الأم التي عكفت على الإنجاب بغزارة، وتوزيع الأمومة على صغارها باجتهاد ودأب، من دون تدخل في عمل الأب أو حتى مجادلته في أي شأن من شؤون الأسرة إلا نادرا، حين كانت لا ترضى اصطحابه لطفلته في أسفاره المضنية من أجل التجارة.
العمة التي أقامت مع الأسرة فترة، لها حكايتها المؤسفة التي ترويها باستمرار مواز لحزنها على ولد مات من سقطة فرس في زمن بعيد.
الجدة تروي ما استطاعت لمه من التاريخ، والعم يروي، وكذا معظم من تلتقيهم في النص، يروون، وتنفلت الحكاية من لسان للسان آخر، يروي للبطلة، وهي توزع الأدوار وترتب الحكايات.
الذي حدث وكان جيدا للغاية، أن تقاليد فلسطين القديمة، بكل ما فيها من جمال أو غير ذلك، كانت موجودة في الرواية، ويمكننا ملاحظة نموذج واضح للمجتمع العربي آنذاك، حين كانت المرأة لا أحد في أوقات كثيرة، وحتى الميراث الشرعي لم يكن يوهب لها من إخوتها الرجال.
نتعرف جليا، على الأكل والشرب وعادات الولادة والأعراس، ونتعرف على الحرب التي نشبت واللجوء وفقدان الاستقرار الذي حدث، وتأتي سنوات النكبة، ليفقد كل ذي حق حقه، ولتضيع تجارة الأب وتضيع أحلام أسرته الكبيرة التي كونها بتأن، وينضم الجميع إلى سكك اللجوء الصعبة التي لن تؤدي بهم إلى استقرار جيد كما كان.
رواية “الست زبيدة”، أو “سيرة الست زبيدة”، كما ذكرت في البداية، كتبت بتأن في رأيي، لا لتحكي أحداثا معينة حدثت في زمن مختصر وينتهي الأمر، ولا لتصف سيرة امرأة اضطلعت بدور الحكي، وتلقّف الحكي من آخرين وإعادة حكيه، في كتاب ملحمي، بل لتصف بلادا كبرى منكوبة، تصفها بكل ما فيها وما كان فيها وضاع، مثل ذلك البيت العتيق الحامل لكل الذكريات، الذي تحرص الشخصية الروائية على تفقده عند عودتها بعد هجرة طويلة، لتجده قد انتهى، لكن بالمقابل، تجد الأزهار التي غرستها ما تزال موجودة وتحييها.
لن أتحدث عن لغة استعارات أو غموض مجازي، فالرواية- السيرة، كانت بشكل وبآخر قد حدثت ببساطة شديدة في الواقع كما أتخيّل، وبذلك لن يكون وجودها على الورق الا تدوين لتكون حقيقة سيرة شعب وبلد تناهبتهما عواصف الاحتلال والتدمير والمحو.