طلب مني ذات مرة، عندما كنت في اليمن، أن أعطي دروسا خصوصية لطالبة يمنية، والدروس الخصوصية لا تعطى إلا لأبناء الذوات لفقر حال معظم اليمنيين.
عندما وصلت الى حيث تسكن تلك الطالبة، وجدت قصرا جميلا مبنيا من أجمل ألوان الحجر الجبلي، تقف أمامه آليات ثقيلة، تدل على أن هناك شركة إعمار كبيرة يملكها صاحب القصر.
وعندما سألت عن أهل الطالبة، قيل لي أنهم عائلة الفقير.
والفقير ليس لقبا بل صفة أطلقت على جد الطالبة الذي قضى حياته بالاستجداء على أرصفة الشوارع، حتى بنى ثروته المهولة، ورغم ذلك مازال يرتدي يوميا هزيل ثيابه، ممسكا بعصاته القديمة ليتسكع في الشوارع المكتظة بالمتعاطفين مع حاله الظاهري.
تذكرت هذه التجربة وأنا أتابع فعاليات المؤتمر الدولي لإعادة إعمار العراق، الذي تستضيفه العاصمة الكويتية، من حيث أن وجه الشبه بين الفقير وبين الساسة العراقيين واحد لا يقبل التجزئة.
فبعد الاستيلاء على خزينة الدولة وضياع آلاف المليارات، شخصت العيون ودمعت توسلا نحو الحصول على ما قيمته مائة مليار دولار، لما يسمى بإعادة إعمار العراق، وكأن العراق كان عامرا قبلا ليعاد إعماره الآن!.
إن لم تكن أولى القرارات والأولويات تصب في إعادة إعمار الشخصية العراقية، فلا قيمة للتخطيط لإعمار ما تبقى من العراق.
إن المتصدقين علينا في هذه الحملة، ليسوا كالمتعاطفين مع الفقير، انهم يفهمون ويدركون أن الأموال التي ستمنح إنما ستذهب لإكمال مملكات المتصدين للمشهد السياسي.
نحن بحاجة صادقة عملية ووطنية للوصول إلى استراتيجية متكاملة، أهمها إعادة بناء الانسان العراقي الذي هزت شخصيته الأحداث والتراكمات وانحراف عجلة الدولة عن مسارها الصحيح.
نحن لسنا بحاجة الى الدعم الخارجي، بل بحاجة ملحة الى البناء الداخلي، لبناء العراق الواحد الموحد ليصل الى صورته المشرقة وهدفه المنشود، متصديا للتحديات المتوقعة من المحيط الجغرافي المحلي والدولي.
نحتاج أن نشخص عدد الذين يؤدون دور "الفقير" اليمني من الساسة العراقيين، ونعيد ما نهبوه في وضح النهار فهو أكبر من الأرقام التي يتحدث عنها مؤتمر الكويت، الذي فيه لسان حالنا يقول
"مجدي يجدي من مجدي..".