قيل في الأثر أن ثلاثة تجلي البصر: الماء والخضراء والوجه الحسن. وأصبح هذا القول مثالا يبتهج به السعداء ويكررونه، حتى صار جزئية حياتية، يقولها المرء بإطلالته على تلك التشكيلة الجمالية الطبيعية.
الماء، هذا اللغز الذي يصعب فهم رموزه، هو سر الخلق والخليقة، والخضرة النضرة تحيا به، بتلاحم أزلي لا تنفك أسراره التي تجعل من ريعان الوجوه وجماليتها جزءًا من طلاسمه.
في عيني صور محال نسيانها، تذهب بي اللحظات الى أرض السواد، شديدة الخضرة، مقامات الجمال، يمتزج النهر بلون النخيل، فلا تميز النهر إلا بحركة أمواجه التي يغفو عليها الأفق، ويرسم السعف، سهام شوق لمحبيه.
وأنا اشاهد لقاء مع حسن الجنابي وزير الموارد المائية، حول أزمة الماء في العراق، تأكد لي فشل الحكومات المتعاقبة في إيجاد الحلول الجذرية للتحدي الخطير الذي يواجهه العراق، من خلال حجب حصصه المائية من المنابع في تركيا وإيران، ما يشكل جرس إنذار لأزمة لن يشفع بعد نشوبها شافع. لقد شحبت طبيعة بلاد الرافدين، واختفت الخضرة بتمدد التصحر، وظمئ نسغ الحياة، وذبلت البساتين والحدائق الغناء، والخوف كل الخوف من غفلة غياب الهور وهجرة الطيور.
سنوات وعدة أخر، تعالت فيها الأصوات خوفا وقلقا على حياة دجلة، وكتبت الحروف فزعة من همس خطوات العطش. ولا من مجيب، بل الحكومة تغط في سبات عميق، ولأن "الماء" كل الماء، متوافر على طاولاتهم في "الخضراء" ووجه "حسن" الجنابي يناشد بحلول نظرية، وأدعية إلهية، عسى ولعل تتحقق أحلامه بزوال الأزمة المائية!
***
رحم الله الشاعر اليازجي يوم أنشد:
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب
فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب
فيم التعلل بالآمال تخدعكم
وأنتم بين راحات الفنا سلب
الله أكبر ما هذا المنام فقد
شكاكم المهد واشتاقتكم الترب
وفارقتكم لطول الذل نخوتكم
فليس يؤلمكم خسف ولا عطب
أقداركم في عيون الترك نازلة
وحقكم بين أيدي الترك مغتصب