خرجت ومن معي ليلا، خلافا للبرنامج السياحي الذي يحتم علينا البقاء في الفندق، لأخذ الراحة الكافية استعدادا لليوم التالي، حيث كان معدا لزيارة مدينة التأريخ التي تتعشق بالآثار والحضارة العربية، والتي مازالت تمثل شواهد حقب زمنية بين مزدهر ومستعر.
لم أتمكن من السكون لأخذ الراحة، بل كنت أسابق الزمن الجامح، وصهيل الخيول عبر التأريخ الذي يناديني صداه من كل مكان.
خرجنا نتجول في المدينة، نستكشف أحياءها وأسواقها القديمة النابضة بألوان التراث وحقب أزمانها، وهي توحي بانسجام مجتمعي متعدد الثقافات والعروق والأجناس.
غرناطة تأريخ ما بناه بنو الأحمر وبنو العباس وأمية، وامتدادا لمن توالوا على خلافة الأندلس.
في ركن يبدأ به أحد المداخل الضيقة، حيث المقاهي تفوح منها رائحة القهوة والشاي والأركيلة، وجدنا بعض العرب المغاربة، الذين ساعدنا أحدهم ونحن نجلس في مقهاه نحتسي الشاي الأخضر، مرحبا بنا في حي "البائسين" اعتقدته مازحا لما أثاره اسم الحي من استغرابي وفضولي، واستفسرت منه إن كان فعلا يسكنه البائسون في العصر الاندلسي، وهل هذه ترجمة لاسم الحي؟ فرد ضاحكا بنعم، مؤكدا انه اليوم من أغلى الأحياء وأكثرها رغبة سكنا وسياحة.
بل بالعكس أن الإسبانيين يستخدمون الاسم كما هو، دون ان يغيروا منه شيئا، لأنهم يحترمون التأريخ ويحافظون على أصغر شواهده، حتى آثار مستعمريهم.
وشتان مابين "حي البؤساء" و "حي التنك"، مقارنة سريعة عصفت في فكري بين هذا الحي وذاك، ما لبثت ان تلاشت مع البخار المتصاعد من أقداح الشاي. وإذ حل الظلام ودعنا صديقنا وبقيت نكهة الشاي المغربي تعطر افواهنا.
تجولنا في أزقة المدينة، حيث تنوع تضاريس طرقاتها الحجرية، وكأننا نتسلقها لارتفاعها، لنصل الى قمتها التي تسمى بـ "ساحة الاحتفالات"، تطل من بعيد على قصر الحمراء المضاء بشكل بانورامي يخلب الابصار، وحمرته أضاعت علينا بياض ضوء القمر..
تفصلنا عنه الوديان والظلام في انتظار الغد.
وقفت متعثرة بأفكار عاصفة أمام آخر معقل للعرب يتربع على منطقة مرتفعة من المدينة، وفي عجالتي استنهض الفجر أن يبزغ لي شمسه لأرى ما حافظ عليه العباد، مما بناه الاجداد، على عكس ما هدمه الاحفاد في أرض السواد.