نحن متشددون حتى في الموت.
لا نتقبل الأموات برحمة ولا نرتجي لهم مغفرة.
هذا هو تناقضنا في كل شيء، فأما صديقا ودودا نعشقه وأما عدوا لدودا نبغضه، لا وسطية عندنا حتى في المشاعر.
عاد من بعد هروب فمات واختلفنا عليه، وهرب من بعد سلطان، ومات واختلفنا عليه.
لقد نزعت الرحمة من أفئدتنا وأطبقت الغشاوة على أبصارنا فأصبحنا نرى الألوان معتمة والأنوار خافتة.
ما زلنا في دوامة القهر والانتقام حتى من الأرواح التي تسامت فانتقلت وتجلت في مثواها بين يدي رب كريم وسعت رحمته كل شيء، لكن تلك الرحمة فقدت من مشاعرنا المتشددة جدا والمتطرفة جدا.
التاريخ يتكرر والمأساة الإنسانية تتجدد، والموت واحد لكننا نختلف عليه.
كان الأيوبي بطلا من وجهة نظر البعض، لكنه كان ظالما ومغيِّرا منهجا ساطعا من وجهة نظر البعض الآخر.
اختلفنا عليه وعلى غيره عبر التاريخ فصار يمجد من هذا ويلعن من ذاك!
انها الحالة الاسترضائية للمحيط، المبتعدة عن التجرد.
لقد كان "رمسيس الثاني" فرعون موسى الذي اختلف عليه القوم، لكنه أصبح تاريخا ومزارا لحضارة جسدت مرحلة مهمة من حضارة مصر العربية. وكان الشعراء يتغنون في بلاطات السلاطين، يحملون أكياس الدراهم طمعا لكنني لم أسمع عن واقعة هُجي فيها شاعر أو لُعن كما يحصل اليوم.
عائد ميت لم يسلم من تشددنا، وهارب ميت لم يتلق تعزيتنا، إننا في مرحلة التحول الأقصى والأقسى في المشاعر الإنسانية، كأن مفاتح الجنان في أيدينا، ندخل فيها من نشاء ونخرج منها من نشاء، مبتعدين عن نفحات السلام والمغفرة الربانية.