بقي مشروع المصالحة الوطنية في العراق يراوح في مكانه إن لم يتراجع إلى الوراء، ولعل إهمال وتجاوز الشروط والموجبات الأساسية التي تشترطها المرحلة الانتقالية من بين أهم الأسباب التي أدت إلى عدم إنجاح المشروع، كما أن قيودا سياسية وأفكار تفرضها أحزاب وجهات سياسية وشخصيات لاتخدم هذه المشروع وتقيده، بل تم استخدام أسم المصالحة الوطنية واجهة وعنوان سياسي دون أي نتاج فعلي أو عملي يجسد حقيقة الأيمان بهذا المشروع، وتم إنفاق مبالغ خيالية تحت هذا العنوان دون أن يستثمر أهل العراق خطوة واحدة تساند الوصول إلى تحقيق المصالحة.
أن التحرر من ثقافة الانتقام ونبذ الآخر تتطلب خطوات وقرارات عملية تمهد لتبادل الثقة والاطمئنان لدى الأخر، ولنتذكر جيدا بأن مؤتمرات المعارضة العراقية ضد النظام الدكتاتوري كانت جميعها تؤكد على قضية المصالحة الوطنية، والتي لم تحقق نجاحا لها في العراق في حين نجحت في إقليم كوردستان العراق، إذ لم يتم القضاء على الظواهر التي تؤثر سلبا على انتصار مفهوم التسامح وقيم المحبة، في حين استقر العمل بها وانتهت صفحتها في الإقليم.
ويشكل نجاح مشروع المصالحة الوطنية نجاحا لمفهوم السلم الأهلي، وخطوة تمهد للقضاء على الفساد والخراب الاجتماعي، وتحقيقا لنبذ العنف والمناهج العنصرية والطائفية والتكفيرية والإرهابية التي حظرها الدستور ونبذتها الإنسانية، كما أن نجاح المصالحة الوطنية يجسد مفهوم المساواة أمام القانون بين كل المواطنين مادام حق الحياة والأمن والحرية مكفول بالإضافة إلى كفالة حرية الفكر والضمير والعقيدة، ويشكل أيضا ركيزة من ركائز بناء الدولة المدنية.
ثقافة التسامح ليس مجرد كلمات أو عبارات يتم اعتمادها ضمن الشعارات والخطابات والكتب الرسمية والمؤتمرات، إنما تعني ثقافة يتم اعتمادها فعليا وتطبيقها عمليا، والأيمان بها كمفهوم، وتلك القضايا لايمكن تطبيقها مالم يؤمن المجتمع بها، بالترفع عن تطبيق الانتقام ورد الإساءة والملاحقة، عملية الأيمان بثقافة التسامح تدلل على ارتفاع بالنفس عن تلك الممارسات، واعتماد السلوك الحضاري والراقي في إنهاء الخلافات والصراعات بالرغم من القدرة على خلاف ذلك، ولذلك شكلت ثقافة التسامح طريقا من طرق إحلال السلام والوئام في المجتمع، ووسيلة من وسائل التطبيق الفعلي للمبادئ الديمقراطية، وسلوكا حضاريا رفيعا وإنسانيا نبيلا لتأسيس وبناء مجتمع يستند على ركائز أساسية متينة.
تسجل التجارب الإنسانية تنوعا في تطبيق ومفهوم ثقافة التسامح، وهذا التنوع يتناسب مع حجم الثقافة العامة والإدراك وقبول الآخر والتطلع نحو أسس البناء للمستقبل، كما يتناسب مع النظرة الإنسانية والحضارية التي يعتمدها المجتمع، والعمل على زيادة وعي المجتمع ودعم قيم المحبة والتسامح والسمو للارتقاء بالمجتمع باتجاه الأيمان والقبول بالمصالحة.
وإذا كانت التطبيقات الحديثة للتسامح تشير إلى تطبيقه قبل أكثر من 500 عام ضمن ظروف سادت في أوربا نتيجة الصراعات الدينية، فأن الديانات التي حلت على البشر جميعها نادت بتطبيق ثقافة التسامح كجزء أساسي ومهم من مبادئ تلك الشرائع والديانات، ولأنه يشكل قيمة ثقافية وفكرية فقد نصت عليها تلك الأديان والحركات الإصلاحية في نصوصها المقدسة أو تعاليمها.
ولعل الأمم المتحدة وجدت في ثقافة التسامح حلا جذريا ووسيلة للتعايش والانسجام بين المجتمعات وخصوصا الخارجة من الصراعات والحروب، أو الواقعة تحت الظلم والمسلوبة الإرادة والحقوق، مما دعاها إلى تضمين لائحة حقوق الإنسان والمبادئ الأساسية للحقوق تلك المقررات والأسس، في قبول التنوع الديني والقومي والفكري الذي تعيشه المجتمعات واحترام هذا التنوع، واعتماد ثقافة قبول الأخر والتسامح كمفاتيح لبداية حياة جديدة يتم اعتماد التسامح فيها كشرط أساسي للبناء الصحيح.
التطبيق الفعلي والعملي لثقافة التسامح لايتم تطبيقه بقانون أو أوامر، مالم يقترن بأيمان حقيقي وشجاعة في الخطوات وتنسي الجراح، حتى يمكن أن نعبد طريق التمهيد للمصالحة، هذا الأيمان يعبر عن سمو نفسي وروحي على الأخطاء وتجاوز الخطايا والذنوب، كما يعبر عن نبل وتفاني في قبول الأخر من اجل فتح جديدة لحياة جديدة تجمع الكل ليعم الانسجام والوئام من اجل وطن متعافي، والتخفيف من معاناة الناس، وإسقاط كل السلبيات التي ترتبط ارتباطا قويا بالتهميش أو الإلغاء أو الملاحقة أو الانتقام أو المنع أو التخوين والاتهام.
تحقيق المصالحة الوطنية يحقق الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني، ويشكل جدارا للتصدي لكل عمليات الإخلال بالأمن وحماية الناس من العمليات الإرهابية والإجرامية، كما يساهم في الإسراع بعملية البناء والاستثمار وتطور الحياة السياسية باعتماد الديمقراطية وثقافة التعدد، فتنعكس ايجابيا على كل مرافق الحياة العراقية.
وتبرز معالم النقاط الايجابية في توفير الفرص للجميع للمشاركة ليس فقط في المشاركة السياسية، بل في حماية العراق واستقراره، على أن نستفاد من كل التجارب الإنسانية في هذا المجال، بما فيها تجربة إقليم كوردستان العراق لما لها من انعكاسات ايجابية على واقع الحياة، ولما أظهرت من نقاط ايجابية وعقلانية في توفير فرص ضمان الحقوق والحريات والنظرة إلى المستقبل.
وبعد مرور عشرة سنوات على إزاحة السلطة الدكتاتورية عن صدر العراق، وبعد إخفاق مرير وملموس في تطبيق ثقافة التسامح والسلام الأهلي والمحبة والتآخي بين العراقيين على اختلاف قومياتهم وأديانهم وعقائدهم.
نرى أن الإقتداء بتلك التجربة لا يشكل نقيصة أو مثلبة في العمل السياسي، فالتجارب حري بها أن يتعلم منها الأخر، وأن نستفد منها في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إليها، وهذه التجربة لم تكن على سبيل الدعاية الإعلامية، إنما دلت التجربة الرائدة ليس فقط على السلوك الحضاري عند الكورد، وإنما عمليا الاستفادة من الزمن والإنسان في عملية البناء، أن توفير الظروف الملائمة لتطبيق التسامح تعتمد على القيم المشتركة وعلى الأيمان بتلك القيم، ومن خلال التطبيق الفعلي والعملي لمبادئ حقوق الإنسان، والاستفادة من تجارب الآخرين.
ويشكل ملف المصالحة الوطنية السبيل الوحيد والأخير لإنقاذ العراق من التدهور الحاصل بشرط أن لاتكون للمصالح السياسية الضيقة والمفاهيم البعيدة عن التصالح والتسامح دورا في العمل ضمن هذا المشروع المهم، باعتماد الحوار الصادق والجدي مع كل الجهات السياسية المخالفة للعملية السياسية والحكومة، هذا الحوار يستند ويقوم على أرضية تعميق روح الثقة والطمأنينة لدى الطرف الأخر، على أن تكون الشفافية والحياد يشكلان القاعدة التي يتم بناء المصالحة عليهما.