حينتعرضت الكويت للغزو سارعت جيوش العالم لتشكيل التحالف الدولي، والذي احرق الأخضر واليابس ليس فقط لإنهاء صفحة الغزو والاحتلال وتحرير الكويت، إنما تعدى ذلك إلى تدمير بنية القوات العسكرية العراقية، ولحق ذلك بتدمير الجسور والمنشآت الصناعية والبنى التحتية والخدمية في العراق، ثم قرر المجتمع الدولي معاقبة الشعب العراقي بفرض حصار قاتل كانت السلطة الصدامية قد استخدمته أبشع استخدام ضد الشعب وديمومة سلطتها البغيضة عليه بالقوة. العالم مع الأسف ينظر إلى الأحداث بمنظارين، احدهما معتم والآخر شفاف، ولايمكن للدول أن ترى إلا من خلال مصالحها وانسجاما مع موقف الولايات المتحدة الأمريكية، ولهذا فأن الموقف الدولي يبقى أسير تلك المصالح والانسجام والسير في خطى الدولة العظمى.
وحين تعرضت القرى والمدن التي يسكنها الايزيديون لهجوم شامل ومخطط له، من قبل مجموعات تتشابه في أشكالها مع البشر، وتفتقد للضمير والفكر والشرف، متسلحة بكل أنواع الأسلحة الفتاكة، بعد أن فسح لها الأخوة الطريق دون مقاومة، وبعد أن قرر القائد الضرورة أن يتخلى عن هذا الجزء من شعبه، فحصل ما حصل. لم يتحرك ضمير العالم ولا اهتزت جدران الأمم المتحدة تعرض شعب وعقيدة إلى مجزرة من بين اكبر المجازر في التاريخ البشري، لم تتناخى الجيوش الجرارة لكنس تلك الشراذم التي تجمعت من أزبال البلدان ومخلفاتها، ولم يكن هناك موقف دولي إنساني يمكن أن يعين الأيزيديين في محنتهم، أو يسهل عمليات تحرير النساء من براثن الدواعش، والجميع يعرف أن هذه المجموعات إنما تمثل قمة الانحطاط الخلقي والتدني الإنساني، وإنهم مارسوا واستمروا في ممارسة انتهاك كل قيم حقوق الإنسان، بعد أن خذلت الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم هذه المجموعة البشرية المسالمة، ودون أن تحاسب ضميرها أو المسؤولين الذين ساهموا في تمهيد الطريق للدواعش أن يغدروا بخسة وجبن لأهل تلك القرى الوادعة، ودون أن يتم تسليحهم للدفاع عن أنفسهم على الأقل.
إن هذه المجموعة التي تطلق على نفسها داعش - الدولة الإسلامية - لم تتشكل وتتكون بين ليلة وضحاها، ولم تأت من القمر إلى الأرض، هذه المجموعات كانت تحت رعاية وإشراف، وأماكن تدريب وتسليح، وتجمعات وأموال تمكنها من التواصل والسفر والتجمع في بلدان متجاورة مع العراق، هذه المجموعات كانت تتدرب وتنظم حالها حتى تحين اللحظة المناسبة لدخولها العراق، وليس اعتباطا أن يتم اختيار الأيزيدية كمكون بشري وعقيدة مسالمة لإيقاع الضرر عليها، وانتهاك شرفها وقتل رجالها ونساؤها وأطفالها وذبح شيوخها وتخريب مزاراتها، لم يكن اختيار مواقع الحدود للقرى الأيزيدية جرى دون سبب ودون دراسة، ولم يعد خافيا تلك الصفحة المريرة من التعاون الداخلي والخارجي، وتلك السيناريوهات المعدة في أروقة دولية لتمرير تلك المأساة، وليكون الأيزيدية ضحاياها، بعد أن تأكدوا بان ليس للأيزيدية ميليشيات مسلحة، ولااسلحة مخزونة للدفاع عن النفس، وبعد أن تأكدوا من أن العقيدة الأيزيدية لا تبيح القتل ولا الغدر.
اللافت للنظر أن الفكر الوهابي الذي تتسلح به مجموعات داعش فكر عقيم ولا ينسجم مع تطور الحياة، هذا الفكر يؤمن بان تغيير الفكر والعقيدة يمكن أن يكون بالسيف والذبح، وهذا الفكر يعتقد بأن كل مخالف له في الدين والمذهب فكرا كافرا ملحدا يستحق القتل، وعلى جميع أتباع الفكر الوهابي ممارسة القتل والذبح بأسم الإله الذي تؤمن به جماعتهم، اله قاتل وسفاك ومتوحش، ومثل كل الحركات التي تتبرقع بالدين وتتخذ منه شعارا وستارا، تقوم حركة داعش أو ما يسمى بالدولة الإسلامية باعتماد الدين ستارا لعملها، وتطويع الآيات والأحاديث لصالح فكرها وعقيدتها، وهي تعتقد إنها بهذه الأعمال الإجرامية تستطيع أن ترهب أعداء الوهابية ومن تعتبرهم في فكرها أعداء دينها.
يمكن للإنسان أن يغير عقيدته أو فكره لأسباب عديدة، غير أن إجباره وقسره على اعتناق فكر أو دين أو مذهب لايمكن أن تترسخ معه العقيدة، حتى وان استكان أو اتخذ موقف المؤمن، تبقى الجذور في أعماق روحه، وسينقلب في أول فرصة تتاح له، ولنا في قراءة الارتداد الذي حصل بعد وفاة النبي محمد من قبل قبائل عديدة في الجزيرة العربية مثالا على ذلك، كما أن المسلمين كانوا يعرضون الإسلام على الكفار أو تعرضهم للقتل بالسيف أن رفضوا، كانت الغالبية من الكفار ترضخ وتقبل بالدين الجديد، غير ان عدم إيمانهم وقناعتهم متجذرة في نفوسهم.
وما نلمسه اليوم في العراق السعي الحثيث لتنفيذ مشروع لإقامة دولة يزعم انها دينية، وان مشروعهم بزعم إقامة الدولة الإسلامية، في الوقت الذي تتشظى الرؤى والأفكار الدينية إلى عقائد وملل وطوائف، تتفرع معها الأفكار والتفرعات، غير إنها جميعا تتخذ من الدين شعارا وستارا لتنفيذ أفكارها وفرضها على الغير قسرا، بقوة السلطة وبالأجبار والقسر، وهي بهذه المحاولة لا تختلف عن الفكر الداعشي سوى بالاسم، ومهما كانت التبريرات والتطمينات، تبقى الفكرة التي تصطدم بالواقع وبالحياة، وبما يفرضه العقل، فلا يمكن أن تبقى متبرقعة ومتسترة بلباس الدين وتطويعه لصالح مشروعها، فقد كشفت القاعدة وداعش الوجه الحقيقي في التخريب والجرائم حتى عدتها اليوم من بين أكثر الحركات أجراما وخسة في التاريخ البشري، وتنظيم القاعدة وداعش تتخذان من الإسلام برقعا وستارا، ومن الفكر الوهابي خارطة للطريق، وبالتالي فهما يعتمدان الإرهاب والقتل وسائل لنشر الفكر وتطويع العقائد.
العقيدة في اللغة ما ينعقد عليه القلب والضمير، ما يؤمن به الإنسان ويعتقده، وحكمها لا يقبل الشك، وهي دليل على الشدة والوثوق، ولاشك أن العقيدة الأيزيدية تقوم على ثوابت وقيم، حالها ككل العقائد البشرية، وأتباعها ومعتنقيها يؤمنون أيمانا راسخا بهذه الثوابت والقيم، والأيمان قاعدتهم الثابتة، ومن يؤمن بهذه العقيدة لايمكن للسكين ان تغيرها في قلبه، ولايمكن للقوة والإرهاب أن يوقفها في ضمائر الأتباع.
صورة الفلاح الايزيدي الذي يبلغ من العمر فوق السبعين وهو أسير لدى مجموعة من الدواعش يعرضون عليه تغيير ديانته وأن يؤمن بالإسلام أو يتعرض للذبح، فيتم ذبحه لأنه لا يستطيع حتى وهو في تلك المحنة أو الموقف الذي لا يحاسبه عليه احد أو يلومه احد، يتمسك بعقيدته الأيزيدية، ومع ان الإسلام يقول ((لكم دينكم ولي دين)) و (( أدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة )) و (( فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب )) و (( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ))، لكن الدواعش يستلون ما يتناسب مع فكرهم الإجرامي من الآيات، ويقومون بتطبيقه على الضعفاء والعزل من البشر، يقومون بالتلذذ بارتكاب الجرائم البشعة التي تتعارض مع المفاهيم الإنسانية والفكرية والحضارية.
وليس أكثر دليلا على الفكر المنحط الذي تؤمن به مجموعة داعش من إنهم يسلبون حلال الناس ويستحوذون على ممتلكاتهم، كما يسوقون النساء والأطفال سوق النعاج، يستغلونها في ملذاتهم الجنسية كأي بهائم، ويقومون ببيع الإنسان الذي كرمه الله على كثير من المخلوقات، والأيزيدي موحد يؤمن بان الله واحد لاشريك له، وقتل الموحد جريمة لا تغتفر.
وليس فقط وقائع الذبح والقتل التي تعرض لها الايزيدي، ولافي اسر بناته وتسويقهن كأي بضاعة قابلة للبيع والشراء، ولافي استغلال أطفالهم وبيع حلالهم والاستيلاء على أموالهم، ولا حتى في تخريب مزاراتهم الدينية، إنما يتعرضون الى صفحة بشعة أخرى سيكون لها مردودا سلبيا في المستقبل على وجودهم البشري، في تهجيرهم وهجرتهم إلى أماكن بعيدة عن أرضهم ومقدساتهم الدينية.
ولان الفكر يعني العقل، التأمل والاعتقاد، انعكاس المباديء التي يؤمن بها العقل والضمير، ولأن الفكر يعني حركة العقل، فهو نتاج بشري يعتمد على المعرفة، وجميع الأديان التي حلت بالبشرية تعتمد الفكر وقواعد الأخلاق في الحياة، ومن بين تلك الديانات الأيزيدية، والتي يؤمن بها عدد لا يستهان به من الناس، والايزيدية تؤمن بفكر بسيط لتوجيه الإنسان نحو الخير والمحبة والتآخي والسلام، وبعيدا عن التعقيد والتأويل في العقيدة، فقد ظهرت السبقات الدينية التي يتم اعتمادها غاية في البساطة، تغلفها نزعات إنسانية، مع تقديس لكل قوى الطبيعة المعطاء، وبالرغم من كل تلك المآسي والمجازر والنكبات التي حلت عليهم من جيرانهم وأعداؤهم، ألا أن قضية الفكر عاندت كل تلك النكبات والمجازر والظروف وبقيت راسخة في ضمائر معتنقيها.
تواجه العقيدة الأيزيدية عقيدة وفكر ضالين، تتناقض في كل شيء.
وفي الوقت الذي يملك الأيزيدي الأرض، فأن الداعشي طاريء دخيل على هذه الأرض، ورغم المحنة يظهر الأيزيدي قيما والتزامات تدلل على قوة عقيدته، في حين يظهر الدواعش محبتهم للمادة ورغبتهم في القتل وتعطشهم للدم، إضافة إلى ميلان شخوصهم في انحراف وسادية وانحطاط، وفي الوقت الذي تبرز قضايا الانحطاط وسوء الخلق بين الدواعش، يجسد الأيزيدي أسمى معاني التكاتف والتعاطف والشجاعة في جميع المواقف، كما أن الدواعش يشكلون غلوا في الفكر والعقيدة لا يستقيم مع التطور الحضاري والإنساني، تبرز القيم والأعراف الأيزيدية عنوانا إنسانيا عريضا.
منظومة دولية وأجهزة تقف مساندة للدواعش في حين يلملم الأيزيديون جراحهم وحدهم، ويبذلون كل جهدهم وجهادهم من اجل استعادة بناتهم من أنياب الوحوش والبهائم، وستنتهي صفحة غادرة وماكرة في التاريخ الايزيدي مسجلة بذلك رقما يضاف إلى أرقام تلك الصفحات والفرمانات التي قتلت وذبحت وسرقت، ولكنها لم تقدر أن تنهي علاقة الإنسان بالعقيدة، ذلك هو من سيبقى تماسك الأيزيدي بعقيدته وفكره مهما طالت المنازلة.