احتجبت الموصل حزنا على دخول الغرباء والهمج الى أزقتها، وتسلل الرعاع والمتخلفين عقليا ودينيا لشوارعها المضيئة وغاباتها التي تعج بالفرح، وبيوتها المهيبة التي آوتهم وحمتهم في كل الدهور، احتجبت وغطت الكآبة أيامها، وعم السواد والألوان القاتمة لون حياتها، وانعدمت أفراحها واختفت سعادتها، ما عادت البسمة وأغاني المساء على شفاه أهلها، ما عادت كنائسها تقرع الأجراس، وما عاد الناس يسرحون ويمرحون في ساحة الدواسة ولافي سوق الأربعاء، وما عاد احد يزور كنيسة الساعة و لا يصلي في قبر النبي يونس او النبي شيت، فقد عاث فيهما الأوباش وتركوا جدرانها أنقاض متهدمة، كل هذا جرى أمام أنظار أهلها وعيونهم تمتلأ بالحزن والدموع بصمت. احتجبت عوائلها الأصيلة عن الأنظار بعد ان تشرد أولادها خشية من خناجر الذبح الشيطاني بأسم دين لا يشبه دين أهلها، تم فرضه بالقوة عليهم، وهم الذين عرفوا باعتدالهم وطيبتهم ومحبتهم للسلام والأمان، فصار أهلها وسط سجن تحرسه الذئاب البشرية والأوغاد والبهائم، ما عادت أيامها كالسابق، ولم يجد حاوي الكنيسة والشلالات من يمر بها من الصبايا والشباب، ولم يعد ربيعها ربيعين، دخلها الغرباء وسقط المتاع يتحكمون برقاب أهلها بقسوة بالغة وبأحكام غريبة، بعد ان قطعوا شوارعها وطرقها، ونشروا الخوف والرعب والإرهاب، فأظلمت فيها كل معاني الحياة. وطيلة أيام الحزن والوجع كان أهل الموصل أوفياء لقيمهم وأصالتهم ومحبتهم لمدينتهم، وكانوا يعرفون أهلها حق المعرفة، وما عاد أحد منهم يتحمل كل هذا الاختناق النفسي والتقييد الجسدي، وهم لا يستحقون كل هذا الذي جرى، كما لا تستحق الموصل أن تتحول أثارها وبناياتها الرمزية الى خرائب وبقايا متهدمة.
قدمت المدينة مئات الشهداء على مذبح الخلاص من تلك الزمر الضالة، وقاومت بقدر إمكانياتها تلك الوجوه الكالحة والعقول الهمجية الغريبة والمتخلفة، وتمنعت من ان تغسل ظفائرها حتى بماء المطر، واستعصت على الغرباء ان تدخلهم في بيوتها فاغتصبوا بيوت الطيبين، وشخصوا من خان أمانتها، وعرفوا من عاث ببلدتهم فسادا، واستدلوا على من نكل بأولادها، فكانوا عونا لمن حرر جانبها ألأيسر، وكانوا يزغردون فرحا بالخلاص، فتحوا قلوبهم قبل بيوتهم للقوات المسلحة، ماكان احد يتعرف على قومية أو مذهب أو دين لأي مقاتل، فتطهير الأرض التي دنسها أوغاد العصر كان الهاجس الأول، عزلوا من تلوث عقله ويديه عنهم، وغسلوا بدموعهم سراديب بيوتهم التي حمتهم من القصف والرصاص فطهروها، وطغت أصالتهم وكرمهم واعتدالهم ومحبتهم للسلام والطهارة على كل المطالب، وعادت مياه دجلة طاهرة كما كانت، فقد نزعت الموصل عنها ثوبها الأسود، وعادت ترتدي ثيابا بيضاء ناصعة كما ربيعها، وغسلت ظفائرها عند الرشيدية والحي العربي والسكر والزهور، ونشفت بللها عند شريخان والقاضية وحي الوحدة والقادسية والفيصيلية والجزائر، وهي تنتظر أن يتحرر جانبها الأيمن حتى يصير ربيعها القادم ربيعين، فهي بحق أم الربيعين، وأهلها بحق عيون أهل العراق.