حقبة من الزمن تعايشت فيها القوميات المختلفة في العراق بوئام وسلام، التآخي والمحبة والانسجام الاجتماعي والقيم مشتركة هي الأسس التي تربط حياة الناس مهما اختلفت لغاتهم وتعددت قومياتهم ، كل هذه الفترة لم تلغ أحلام أي قومية، لاالعرب تركوا حلمهم بوحدة عربية، ولاالكورد تنصلوا من حلم الاستقلال وتشكيل الدولة الكوردية ولاغيرهم اعلنوا انهم تركوا احلامهم.
وطيلة فترة الحكم الملكي والجمهوريات اللاحقة، تعرضت جميع مكونات العراق الى الظلم وعدم الأنصاف، بل تعرض العراق كله الى حقب من الارتباك والتناحر والتهميش قوميا ودينيا وسياسيا، ولهذا أقدمت قوميات وأحزاب عراقية على عدم قبولها بهذا الواقع المرير فتمردت عليه، ولهذا أعلنت الحكومات العراقية حربها غير المتكافئة وغير المتوازنة على تلك القوميات والأحزاب، ووظفت جيشها وقواتها الأمنية والأستخبارية وإمكانياتها التسليحية وخزينتها المادية للقضاء على تمرد تلك الجهات وإسكات صوتها لعدم قبولها الظلم والتهميش، وقدمت الأطراف ضحايا ليست قليلة، كان الخاسر فيها الشعب العراقي نفسه، وتقدمت طوابير من العراقيين الوطنيين الى المحاكم العرفية ومحاكم امن الدولة لاتهامها بمناصرة حقوق قوميات أخرى، واتهامها بانها تحلم بدولة العدل والحقوق، وامتلأت سجون العراق بهم، وبقي العراق يخسر من مستقبله وشبابه وبناءه يوما بعد يوم، حتى حلت كارثة الحكم الصدامي.
المحبة والتناخي القومي لم يضعف ولم ينته في العراق مطلقا بالرغم من السعار القومي المتشنج الذي تصرخ وتجاهر به الدولة وتعمل به، بقيت محبة التركمان والكورد والعرب وبقية القوميات مزروعة في قلوب بعضهم البعض، من خلال نظرة الإنسان الواعي والمتنور، وانتجت فترة التعايش الاجتماعي بين تلك المكونات تخالطا وتزاوجا وتصاهرا وتشاركا حقيقيا بالرغم من اصرار الحكومات المتعاقبة على زرع الفرقة والتهميش والتباين وعدم صحة المساواة بين كل الكتل السياسية والقوميات.
لم يكن كورد العراق وحدهم من رفع السلاح بوجه حكوماتهم يطالبون بالحدود الدنيا لحقوقهم، ومع ان حلمهم المشروع لم يزل قائما، ولهذا ساندهم اخوتهم من العرب والتركمان والقوميات الأخرى بالموقف وبالكلمة وبالسلاح، ولهذا حين تحققت أجزاء من مطالبهم اذعنوا للقبول، لكنهم صاروا ملاذا لكل من خرج على الحكومة وطالبهم بحمايته.
جميعنا نعرف أن كوردستان كانت اشبه ماتكون بالدولة المستقلة، عزز تلك الأستقلالية القرارات الدولية التي رسمت خطوط لايمكن للقوات الصدامية أن تتجاوزها، خلال تلك الفترة واتمنى ان لاينساها كل صاحب ضمير، انها صارت ملاذا لكل المعارضين، السياسيين منهم او المقاتلين، كما صارت جسرا للعبور الى العالم، وكانت صدرا رحبا وواسعا لكل من يلوذ بها.
وحين انتهت الحقبة الصدامية اقر الدستور العراقي اقليم كوردستان وسلطاته القائمة اقليما اتحاديا وان الدستور هو الضامن لوحدة العراق، حلت علينا حقبة حكم الأحزاب الدينية التي فشلت فشلا ذريعا في امكانية ان تطبق المشروع الوطني للدولة، ليس بسبب برامجها او افكارها السياسية، انما بسبب عدم قدرة قياديها على ادارة دفة العراق بعقلية وطنية ناضجة، تغلبت عليهم النزعات الطائفية وانغمر بعضهم في ملفات الفساد، وانجروا الى حروب وصدامات طائفية بلغ سعيرها ضمن سنوات انعدم فيها القانون وضعفت الدولة وطغى مفهوم القوة والقتل منهجا يسيطر على الشارع، الحرب التي شنتها قوى تزعم انها قيادات سنية على كل الشارع الشيعي، وحرب ابشع تشنها قوى تزعم انها قيادات شيعية على كل اهل السنة، من احترق خلال تلك الحروب البائسين والفقراء والجياع والضعفاء ممن لايملكون حماية او سواتر من كلا الأطراف، غير ان تلك القوى والقيادات لم تتضرر وبقيت تتاجر بدماء اهل العراق، وبقي الدستور العراقي كلمات منمقة حاله حال اغلب الدساتير المؤقتة مجرد حبر على الورق، فلا حلت قضية المساواة، ولاتم انهاء وضع المناطق المختلف عليها، ولم يتم القضاء على الفساد، ولاتم تطبيق مجلس الاتحاد، ولاتم تعديل الدستور ليكون ضامنا حقيقيا للمرحلة القادمة، مع بشاعة وسوء في التطبيق العملي لواقع العراق المنهوب، وبقي الجميع يطالب بإنهاء حالة الفساد وسرقة خيرات العراق دون اي واقع فعلي او عملي لذلك، وبقيت واردات العراق منهوبة من تلك القيادات العربية منها او الكوردية وبقية المكونات الاخرى، ومع كل تلك الاتهامات بالفساد والسرقات بقيت هذه القيادات متمسكة بمواقعها تفرض ارادتها بالمال وبالقوة وبطرق الاحتيال على الفقراء والمحتاجين من اهل العراق وهم الغالبية، فاصبحوا يتقاسمون المناصب ويتحاصصون وفقا لنسب يتفقوا عليها والشعب في واد وهم في واد اخر.
ومع اقدام كوردستان على أجراء استفتاء، مجرد استفتاء لاغير، لم يقرروا أن تنتهي شراكتهم مع العرب والتركمان بعد، برز السعار القومي المتشنج، تحت شتى المسميات والأسباب، وبدأت شعارات التمسك بالوطنية والوحدة والحفاظ على وحدة العراق تتزامن مع شعارات الخيانة والأنفصال وتطبيق أهداف اسرائيل تطغي على السطح، بل وصل الأمر الى ظهور من ينادي بشن حرب ابادة، والقتال، وتم استغلال بعض فصائل الحشد الشعبي ليكونوا وقودا لنار تحرق اليابس بعد الأخضر، وتم استغلال المحكمة الاتحادية ومجلس النواب استغلالا سياسيا ليزيد النار اشتعالا. لم تكن الاتهامات منصفة وبعيدة عن الحقيقة وبقصد استغلال مشاعر الناس البسيطة، ولم يكن رفع العلم الاسرائيلي من قبل بعض من الخائبين في كوردستان انسجاما بين الاقليم والدولة اللقيطة، بل ان مجرد وجود قنصلية فلسطينية يرفع فوقها علم فلسطين في اربيل يدحض هذا الزعم، في الوقت الذي يرتفع علم اسرائيل فوق سماوات بلدات عربية كبيرة، ولم يكن ترحيب اسرائيل بالاستفتاء الا لعبة انطلت على العرب ايضا، فطالما انسجمت كوردستان مع حركة النضال الفلسطيني، وطالما كانت
العلاقات السياسية والنضالية طيلة الحقبة الزمنية الفائتة تدحض اية علاقة رسمية بين اسرائيل وكوردستان. وإذا كان توقيت إعلان الدولة في غير محلة أو لم يحن اوانه للظروف الذاتية والموضوعية، فلنضع القيادات الكوردية والعربية في العراق جانيا ونتسائل:
- عن العلاقة الحقيقية بين الشعوب، أين صار الأنسجام والتآخي والمحبة بين القوميات والمكونات العراقية؟ وأين صار الانتصار للحق والحقوق؟ وأين انتهت احلام الشعوب وحقها في تقرير المصير؟
- هل لنا الحق كعرب ان ننفصل عن كوردستان لنلتحق بأمتنا العربية الواحدة؟ اين انتهت اواصر النضال المشترك وحلمنا بقيام دولة عراقية وطنية تضمن كامل الحقوق لجميع الافراد بالمساواة امام القانون دون تمييز بسبب الجنس او العرق او القومية او الدين او المذهب او المعتقد او الراي او الوضع الاقتصادي أو الأجتماعي؟
- اليس هذا مانص عليه الدستور؟
- اليس من حقنا ان نتسائل عن تطبيق حظر تشكيل ميليشيات عسكرية خارج اطار القوات المسلحة واقع فعلا ام يتم اغماض العيون عنه؟
- كيف برز السعار القومي عند بعض العراقيين من العرب وعند بعض الكورد في العراق؟
- كيف برزت نيران السعار القومي المتشنج من بين بقايا رماد اعتقدنا انه اصبح باردا وانتهت جذوة اشتعاله منذ زمن؟
- اين انتهت حقوقنا في الحياة والأمن والحرية حقوقنا المدنية منها والسياسية؟
الجميع يشترك في الأخطاء التي يتحملها كل اهل العراق، الحكومة الاتحادية والأحزاب الحاكمة وحكومة الإقليم، وتراكمت تلك الأخطاء مع وجود حصانات تمنع مسائلة او محاسبة أي مسؤول لما أل اليه الحال في العراق يدفع الى التمادي والوقوع بمزيد من الأخطاء، وحل الإشكالات والمشاكل والخلافات في غير اوانها وظروفها لاينفع معه القتال والحروب ولا التنابز وتبادل الاتهامات، اما كان بالاحرى ان نحل ازماتنا ومشاكلنا بيننا داخل بيتنا العراقي بديلا عن حلها في اروقة ايران او تركيا او الولايات المتحدة او السعودية؟ هل عجز ساستنا عن الحوار وايجاد حلول مؤقتة أو بديلة عن التناحر والتنابز والأتهامات والتنافس؟
لتكن الحلول العقلانية التي تبعد بلدنا عن ويلات القتال والتناحر والتطاحن القومي بين عقلاء العرب والكورد، ولتكن المحبة والاعتدال والعقل هو الأساس الذي يتم فيه الحوار بعيدا عن التشنج والنفخ في الرماد أملا باشتعال النار، ولتكن مصلحة الإنسان في العراق بغض النظر عن قوميته او دينه او مذهبه الغطاء الذي يمنح الحوار بعدا وطنيا، كونوا عراقيين مرة واحدة وابتعدوا عن أظهار السعار القومي الذي نبذه اغلب اهل العراق منذ زمن وتناساه اغلب اهل العراق ليظهر اليوم بوجهه البشع، نريدكم ان تعملوا على تهدئة الأوضاع وأن تستلموا الرسائل الايجابية، وان يكون حال الناس في العراق مهما كانت قومياتهم في اي منطقة إمام ضمائركم، فالعراق مختلط ومتداخل ولايمكن ان تجعلوا الناس وقود الخلاف .