الكراهية التي سيطرت على النفوس وطغت على مشاعر المحبة والنخوة والشهامة والعفو بين العراقيين لم تكن دون سبب، فقد تراكمت أحداث وسياسات سابقة ولدت العديد من المشاعر السلبية، ومصدر كلمة الكراهية في معاجم اللغة مشتقة من (( كره ))، والكره يعني الحقد والمقت والغضب، والكراهية من المكروه والكريه الذي يثير الاشمئزاز ، والكراهية صفة من الصفات السلبية التي تتناقض وتتعارض مع الحب والمحبة، وهي خلاف الرضا وتولد العداوة والتنافر، وهي مرض يصيب النفس البشرية فيغمرها بالحقد ويدمر معالم المشاعر الإنسانية الايجابية فيها، فيتحول الإنسان إلى راغب في الانتقام والتشفي والرغبة العارمة في الإيذاء.
ومشاعر الكراهية إما أن تكون بسبب اعتقاد أو وهم، أو إنها مرض نفسي يجعل الكاره يرى الأشياء الجميلة بمنظاره مكروهة وقبيحة فيكرهها، وينظر إلى الحياة والمشاعر الإنسانية بمنظار أسود كالح فلا يرى سوى الجوانب المعتمة التي يستطيب لها فتتلبسه من خلال تلك النظرة، وتسيطر عليه من خلال تلك المشاعر .
نحن لا نتحدث عن كراهية الظلم والحرام والمعاصي، وقد قال الله تعالى في محكم كتابه (( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم )) (البقرة-216)، إنما نتحدث عن المشاعر الإنسانية التي يجب أن تسود المجتمع العراقي حتى يمكن أن تمهد طريقا سهلا ويسيرا للمصالحة الوطنية، حتى تكون عاملا ايجابيا يسهم في إنجاز التصالح المجتمعي.
فمن غير المقبول أن تمضي علينا أكثر من اثنتي عشرة سنة ولم تزل الأحقاد والكراهية تغلي في القلوب والعقول، فتعطل مشروع إنساني لحياة يتطلع إليها المجتمع بأن تسوده المحبة والألفة والانسجام والتفاهم، وان يتشارك الجميع لبناء وترميم ما تهدم من صروح وتعويض ما فات من زمن مهدور راح ضحيته ألاف العراقيين، مشروع إنساني جميل نتعظ به من ماضينا لحاضرنا، وأن نستفاد من تجارب الدول الأخرى التي عالجت قضية الكراهية والأحقاد وتجاوزت إلى زمن البناء وخدمة الإنسان وحقوقه.
وجميعنا نتفق على أن العراق ينبغي أن يكون وطنا يتسع للجميع، وأن تبدأ صفحة جديدة لبناء الوطن، وأن نعي جميعا بأن تجذر الكراهية وتغلغلها في نفوس الجيل القادم من خلال التربية وانعكاس ما يجيش في حديث الأهل وما يسيطر على عقولهم، سيبقى تلك المشاعر السلبية عائق أن لم تكن سيفا مسلطا على رقاب العراقيين، واقتلاع الكراهية والأحقاد لاتتم بقرارات سياسية ولا بفتاوى دينية، فهي متغلغلة داخل النفس البشرية، تتعلق بمدى فهم الإنسان لقيمة المحبة وضرورة البناء وعودة المجتمع إلى ما كان عليه من قيم وأعراف وتقاليد جميعها من الأعراف والقيم الخيرة والمنسجمة مع تطلعات الإنسان وحقه في الحياة الحرة والكريمة.
فإذا كانت الكراهية موقف فكري يلتبس بحالة نفسية فهو يعرقل جميع المساعي الإنسانية للمصالحة الوطنية، وأن التغيير والقناعة تأتي من داخل المجتمع، ومع أن لمنظمات المجتمع المدني الدور الأراس والمهم في هذا الجانب.
إلا إن تغيير القناعة لدى الفرد في ضرورة نزع غلاف الكراهية وإبداله بشفافية المحبة، وضرورة أن نبدأ بالبناء وما تهدم فينا من جوانب اجتماعية وسياسية وإنسانية.
فالعراق يستحق منا جميعا أن نقدم له التضحيات، والمستقبل لأولادنا يستحق منا أن ننتزع منهم معالم الأحقاد ومشاعر الكراهية قبل أن تتجذر.
وان نبتدأ بغرس ونشر المحبة والعفو والتسامح، وأن نؤمن حقا بأن بلدنا اليوم بأشد الحاجة الماسة للمصالحة الوطنية.
إن المصالحة الوطنية الفوقية بين السياسيين لا تغير من معاني الحياة ومسارها بشيء، مالم تتزامن وتقترن مع قناعة المجتمع، ومالم تترابط مع قبول المجتمع بعد توعيته وتنويره بضرورة قيام المصالحة الوطنية، وتوفير مستلزماتها وأدواتها، وبدونها سنبقى ندور في دوامة الصراعات بكل أشكالها، علينا أن نبحث بشكل جدي وعميق وسليم في الأسباب التي عمقت الخلافات ووسعت من الشرخ والتباعد داخل بنية المجتمع العراقي، علينا أيضا أن نعتمد الصراحة والتحليل والدقة في المسببات الرئيسية للفرقة الاجتماعية ، وان نسعى لتوافق وانسجام جميع القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني بما فيها منظمات حقوق الإنسان.
يخطيء من يظن أن الخلاف سياسي والمصالحة السياسية ستحل كافة الإشكاليات في العراق.
النخب السياسي الواعية كفيلة بالتصالح والانسجام في حال يكون الخلاف سياسيا، ما يحتمه عليها دورها الوطني والإنساني يلزما ويدعوها للتصالح والتقارب، ولكن الأمر أصبح داخل المجتمع العراقي، بين المكونات وبين المذاهب وبين القوميات، ومع كل هذا التباعد والشروخ ينهش الإرهاب من جسد المجتمع العراقي فيزيده خلافا وفرقة.
وبالرغم من كل ما بذلته السلطات التنفيذية من برامج للمصالحة الوطنية وما انفق عليها من ملايين الدولارات فأنها لم يكن لها أي تأثير على الحياة العراقية، ولا شكلت تلك البرامج خطوة جدية وملموسة تعبر بنا إلى مرحلة أخرى.
تجربة المصالحة في إقليم كوردستان لم تكن بعيدة عنا، ولا غريبة يصعب علينا فهمها واستيعابها، أما أن يتوسع الصراع بين شرائح المجتمع، ويتكاثر وينشطر في فترة قياسية كان يفترض أن تكون فترة زمنية للترميم واللحاق بدول العالم، فترة يعود بها المجتمع إلى انسجامه وتعاضده، بدلا من البحث عن الثارات والاتهامات، وتكريس مبدأ الكراهية داخل بنية المجتمع العراقي حتى صارت الكراهية معلما من معالم المجتمع العراقي وعائقا كبيرا يلغي أي خطوة من خطوات المصالحة الوطنية.
أن من يريد إبدال ملابسه القديمة عليه أن ينزعها أولا، الكراهية والحقد أصبحا متجذرين في نفوس البعض، وحين تصبح الكراهية سائدة فأنها تنشر الخراب وتعيق القيم الجميلة التي كان يلتزم بها المجتمع العراقي، الانتقام والثأر يعرقل التطبيق القانوني ومفهوم دولة القانون، والمصالحة الوطنية لايمكن أن تنسجم مع مفهوم الانتقام والثأر، وتتناقض مع مبدأ سيادة القانون، والمصالحة الوطنية تحتاج إلى عقول وقلوب مفتوحة تقف على جراحها وتتخطى الماضي، وتقف على أرضية منبسطة لا تغطيها الألغام.
وأن تسودها روح التسامح ويطغي على صفحتها الهدف الأسمى في تخليص العراق من محنته، ودفع المجتمع إلى ناصية الطريق الذي يمكن معه أن تسير مراكبنا وسفينتنا إلى بر الآمان، وان تكون خسائرنا أقل ما نستطيع وبقدر الأمكان.
المصالحة الوطنية تعني القبول بالجلوس مع جميع الأطراف ممن كان لهم موقفا متعارضا مع منهج السلطة ومع المنهاج السياسي، دون استثناء،.
وان نستمع لهم ويستمعوا لنا بصدور مفتوحة، وبنيات سليمة لاتحمل بين طياتها التبطين والضغينة والقصد المسبق.
فالقضية تتعلق بمستقبل جيل من البشر، علينا أن نجنبهم ويلات الصراع، وأمراض الماضي والحاضر التي اكتوينا بنارها.
وان نقوم بتقويم منهجنا السياسي ومواقفنا ونتقبل النقد بما يصحح ما آلت إليه الأوضاع.
وان على الجميع أن يتطلع إلى عهد سياسي واجتماعي، وذلك بأن نضع الخطوة الأولى في نبذ الكراهية والأحقاد داخل المجتمع.
وان يكفينا ما فاتنا من الزمن وما قدمنا من التضحيات.