من أجل ضمان حياة يحكمها القانون وتسودها الأعراف الإنسانية والأخلاقية، اعتمد المجتمع الدولي قوانين واتفاقيات تنظم هذه المسارات، ويشكل الالتزام والعمل بهذه القوانين معيارا للالتزام بالمباديء العامة لحقوق الإنسان والتنظيم الدولي والسلام العالمي، ومن بين أهم هذه القوانين هي ضرورة التفاعل والتفاهم بين الدول، وخصوصا التي تحكمها الجغرافية فترتبط بحدود متجاورة وعلاقات إنسانية اقتصادية واجتماعية وثقافية طويلة عبر التاريخ. وتقوم العلاقات بين تركيا والعراق على أساس المنافع المشتركة وحسن الجوار والالتزام بمباديء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات المشتركة، واحترام سيادة كل دولة للأخرى، وعدم التدخل مطلقا في شأنها الداخلي، إلا أن الحكومة التركية وبزعم ملاحقتها لأعضاء (حزب العمال الكردستاني) المعارض للسلطات التركية، تمكنت من الحصول على موافقة سلطة الدكتاتور صدام حسين، اختراق السيادة العراقية، ودخول الأراضي العراقية عسكريا لمسافة تجاوزت حتى الحدود المتفق عليها والمسموح بها، يرافق ذلك قبول وصمت من الحكومة العراقية في زمن الطاغية، نكاية بشريحة واسعة من شرائح الشعب العراقي، واستخفافا بالسيادة الوطنية.
وبعد سقوط سلطة الدكتاتور في العام 2003 دأبت الحكومات التركية المتعاقبة على اعتماد لغة الحرب في حل الإشكالات بينها وبين الأكراد في تركيا، وهي لغة ووسيلة تنم عن عدم فهم لحركة التاريخ، وعدم استيعاب لحقوق الإنسان ، بالإضافة الى إنها تعبر عن الفشل السياسي المريع المعتمد، ومن نتائجه انهار الدم التركي المستمر، والخروقات الفاضحة لحقوق الإنسان، وعدم استقرار تركيا، وبالرغم من أن هذا الشأن تتحمله السلطات التركية، وتلمسه الشعوب التركية جيدا، الا ان الخروقات الحاصلة على السيادة العراقية مستمرة تحت ذلك الزعم وتلك الحجة.
نرتبط مع تركيا الجارة بروابط إنسانية عديدة، ومصالح اقتصادية مشتركة ومتينة، وعلاقات دبلوماسية تعتمد الموضوعية وحسن الجوار في اتفاقيات ملزمة للطرفين تحكمها القوانين والأعراف الدولية، إلا أن الحكومة التي يرأسها السيد اردوغان تجاوزت كل هذه المعايير حين سمحت للمجاميع الأرهابية أن تتخذ من مدينة غازي عينتاب محطة للاستقبال والتدريب، وبزعم إرسالهم الى سوريا والتسلل من هذه المحطات الى العراق، كما تم تسجيل عودة الأرهابيين المصابين والمجازين عبر تركيا، واستقبالهم في فنادق اسطنبول لتسهيل أمور عبورهم ومرورهم وعودتهم، كما أن عملية نقل السلاح والذخيرة من تركيا إلى الإرهابيين في سورية تتم بشكل ممنهج تحت إشراف جهاز المخابرات التركي وحكومة حزب العدالة والتنمية، وقد نال العراق ضررا كبيرا جراء تلك التسهيلات والمساندة التي توفرها السلطات التركية لهذه التنظيمات والتي عرفها العالم.
وقد بدأت تركيا تتذوق طعم العمليات الأرهابية بعد أن انقلبت بعض تلك التنظيمات عليها، وتفككت الاتفاقيات التي تحكم علاقاتهم، وكان الخاسر في هذا الانقلاب هو الشعب التركي حتما، وبديلا عن سياسة الحكمة والعقل لجأت تركيا الى اعتماد سياسة تعتمد على اختراق سيادة البلدان المجاورة، واعتمادا على انشغالها بعمليات تطهير المدن التي احتلتها تلك التنظيمات. وفي خضم تلك الانشغالات عبرت القوات التركية الى عمق الأراضي العراقية ضمن منطقة (بعشيقة) القريبة من مدينة الموصل التي احتلتها مجموعة الأرهابيين (داعش)، منتهكة بشكل فاضح وصارخ السيادة العراقية، بزعم المساهمة في تحرير المدينة، وقد شاهد العديد من المقاتلين العراقيين الطائرات المروحية التركية وهي تنقل كوادر وقيادات داعش الأرهابيين من منطقة بعشيقة الى الأراضي التركية. ان وجود قوات تركية على الأراضي العراقية يشكل انتهاكا وتعديا مرفوضا، وعبر عن هذا ألانتهاك والرفض قرار مجلس النواب العراقي برفض التواجد التركي أو أية قوات اجنبية أخرى على الأرض العراقية، وان هذه القوات التي احتلت جزء من الأرض العراقية تعتبر قوات محتلة ومعتدية على السيادة العراقية، وليس لها سبب او مسوغ للبقاء في المنطقة سوى اتهامها بتسهيل وتأمين هروب قيادات وكوادر التنظيم الإرهابي المتورطة معها، وخشية من اعترافاتها وإدانتها دوليا .
إن إعادة النظر في العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بشكل سريع يشكل أول الخطوات، كما ان إتخاذ الإجراءات القانونية الدولية الرادعة، ومطالبة مجلس الأمن والولايات المتحدة الأمريكية وفقا لنصوص المعاهدة الأخيرة لإخراج القوات التركية، وقطع طريق تسهيلها عبور الأرهابيين من العراق الى تركيا، وتزعم تركيا أنها دخلت الأراضي العراقية بطلب من عراقيين، وهذا الطلب لا يشكل قيمة قانونية ولا يرقى الى مستوى الاتفاقية الدولية، والاستعانة بقوات تركية للتواجد على اراضي عراقية لا يشكل تهديدا للتنظيمات الأرهابية بقدر ما يشكل زعزعة للسيادة والأمن الوطني في العراق، كما تشكل التصريحات غير المنضبطة وغير المسؤولة التي يدلي بها السيد اردوغان منهجا عدوانيا وأصرارا على انتهاك سيادة العراق مما تستهجنه الأوساط العراقية كافة.
ان من يتم اتهامه بمساندة التنظيمات الأرهابية لايمكن ان يساهم في تحرير المدن العراقية من تلك التنظيمات، كما أن انضواء تركيا ضمن مجموعة دول تخندقت ضمن محور إعلامي بزعم محاربة الإرهاب لايمكن أن يغطي الحقائق، أو يدعم خرق تركيا لكل مبادي القانون الدولي، ويساهم في عزلة تركيا داخليا وخارجيا، فكل تلك التصرفات والأفعال والمواقف والأقوال لا تخدم تركيا قبل ان تضر بالمنطقة، وتضر بعملية السلام والاستقرار التي ينشدها المجتمع الدولي. لن تدرك تركيا ان الهدف الرئيس للمجتمع الدولي هو المحافظة على السلم والأمن الدوليين، وان الشعب العراقي بكل مكوناته القومية والدينية والطائفية يتمنى أن تنتهي هذه الصفحة الغادرة من تسلل التنظيم الإرهابي واحتلال مدن عزيزة وإخضاع أهلها الى أحكامهم المتخلفة وسطوتهم المتوحشة والبعيدة عن الإنسانية، وان مباديء التعاون الدولي اعتمدت قرارات صدرت من الجمعية العامة للأمم المتحدة برقم 3074 والمؤرخ في 3 كانون الأول 1973 تقضي بتعقب وتوقيف ومحاكمة كل متهم تقوم الدلائل على ارتكابه جرائم ضد الإنسانية أيا كان المكان الذي ارتكبت فيه أو يلجا إليه، وان الدول تتعاون فيما بينها لتعقب واعتقال ومحاكمة مثل هؤلاء، ولا يجوز لأية دولة ان تمنح حق اللجوء لأي من هؤلاء الإرهابيين، كما هذه الجرائم لا تتقادم، سواء كان الفاعل اصليا أو شريكا أو مساهما او محرضا، ويقع العقاب أيضا على ممثلي أية دولة يتسامحون في ارتكاب تلك الجرائم.