في الوقت الذي نزعم ان الدستور العراقي هو القانون الأسمى والأعلى في العراق يتوجب علينا جميعا من اجل ان نحرص على مفهوم الدولة القانونية، فان خرقا فاضحا يتمثل في صدور قوانين مخالفة لهذا الدستور بين فترة وأخرى، وحيث ان السلطات الاتحادية في العراق تتكون من السلطة الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتمارس كل سلطة منها اختصاصاتها ومهماتها على أساس مبدأ الفصل بين السلطات، فان السلطة القضائية وهي مستقلة تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وهي تتكون من مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية العليا، ومحكمة التمييز الاتحادية، وجهاز الادعاء العام، وهيئة الإشراف القضائي، والمحاكم الاتحادية الأخرى.
وتأكيدا على الاستقلالية التي تتمتع بها السلطة القضائية فقد جوزت المادة (101) من الدستور إنشاء مجلس دولة يختص بوظائف القضاء الاداري والإفتاء والصياغة وتمثيل الدولة وسائر الهيئات العامة أمام جهات القضاء إلا ما استثني منها بقانون.
ووفقا لأحكام الفصل الثالث من الدستور والخاص بنصوص السلطة القضائية فأن القضاء بكل أشكاله وأنواعه محصور بالسلطة القضائية، ويمارس مجلس القضاء الأعلى صلاحياته القانونية بإدارة شؤون القضاء والإشراف على جميع أشكال القضاء الاتحادي، وكل شكل من أشكال القضاء والمحاكم خارج هذا الإطار يخالف الدستور ويشكل خرقا فاضحا حذرت منه المادة (95) من الدستور والتي حظرت إنشاء محاكم استثنائية أو خاصة، وكل محكمة أو هيئة تمارس العمل القضائي خارج إطار التنظيم القضائي ومجلس القضاء الأعلى تعتبر تعديا على استقلالية السلطة القضائية، وشكلا من أشكال المحاكم الخاصة او الاستثنائية.
ويعد قانون مجلس الدولة رقم 71 لسنة 2018 وهو وريث مجلس شورى الدولة احد هذه الأشكال التي تخرق ضوابط العمل القضائي، وتم حشره ضمن الهيئات المستقلة وفقا لإحكام المادة الأولى من قانون مجلس الدولة، حيث نصت المادة الأولى منه على ان مجلس الدولة يختص بوظائف القضاء الإداري.
وجاء في الأسباب الموجبة للقانون انه جاء تنفيذا لإحكام المادة (101) من الدستور, ولغرض استقلال القضاء الإداري عن السلطة التنفيذية، وجعل مجلس الدولة هيئة مستقلة تتمتع بالشخصية المعنوية الذي يضم القضاء الإداري ومحاكم قضاء الموظفين والمحكمة الإدارية العليا، هو من يفصل في القضايا المعروضة عليه بصورة حيادية ومستقلة، أسوة بمجالس الدولة في الدول ألمتمدنة، وبغية فك ارتباط مجلس شورى الدولة عن وزارة العدل, وإبدال تسميته إلى مجلس الدولة انسجاما مع الدستور.
هذا المجلس لا علاقة له بالسلطة القضائية ولا بالسلطة التنفيذية ولا بالسلطة التشريعية، فأي دور يؤديه هذا المجلس وهو ينسلخ عن هذه السلطات ويؤسس لهيئة خارج هذا الإطار.
ونحن هنا أمام تشكيلات قضائية خارج جسد السلطة القضائية ولا ترتبط بها بأي شكل من الأشكال، وتتنوع بين (محاكم القضاء الإداري) و(قضاء الموظفين) و (المحكمة الإدارية العليا).
وهذه التشكيلات القضائية لا تقع ضمن أعمال مجلس القضاء الأعلى، ولا تخضع للضوابط القضائية المعمول بها وفقا لأحكام قانون التنظيم القضائي رقم 160 لسنة 1979 المعدل، وهي في جميع الأحوال جزء من السلطة التنفيذية، ولرئيس مجلس الدولة صلاحية وزير ضمن إطار الصلاحيات في السلطة التنفيذية.
ولإثبات أن هذا التشكيل لاينتمي الى السلطة القضائية فقد نصت المادة الدستورية على ان يكون هذا المجلس ممثلا للدولة وسائر الهيئات العامة أمام القضاء، وحيث لايمكن ان تكون جهة قضائية تترافع أمام نفس القضاء تمثل جهات تنفيذية أو تشريعية بديلا عن ممثل قانوني عن تلك الجهات.
ان مجلس الدولة في جمهورية مصر العربية يعد احد أعمدة السلطة القضائية فيها، ومجلس الدولة العماني يقترح القوانين ويرفع الاقتراحات الى مجلس الوزراء، ومجلس الدولة السوري هيئة ملحقة بمجلس الوزراء، ومجلس الدولة الجزائري هيئة تابعة للسلطة القضائية، ومجلس الدولة الكويتي جزء من التنظيم القضائي، وأحكام محاكم القضاء الاداري في لبنان خاضعة للاستئناف والتمييز أمام القضاء اللبناني.
ان صدور مثل هذا القانون يعد تخبطا من الناحية القانونية وإرباكا للعمل القانوني، وحين يعد القانون مجلس الدولة هيئة مستقلة ويمارس عمله القضائي في إصدار الأحكام القضائية ضمن وظائف القضاء الاداري، فان هذه الاستقلالية تجعله خارج المنظومة القضائية وتشكيلاتها ولايخضع بهذا الشكل الى قرارات محكمة التمييز الاتحادية ولا لأشراف دائرة ألأشراف القضائي.
وبالتالي فأن من يصدر تلك القرارات ليس من القضاة وإنما من الموظفين الإداريين بمركز المستشار القانوني في دائرة مجلس الدولة، والقضاة مستقلون في أعمالهم لا يجوز التسلط على قراراتهم، كما لا يجوز لاية سلطة التدخل في العمل القضائي أو في شؤون العدالة.
أن نص المادة (101) من الدستور جوز إنشاء مجلس للدولة ضمن الإطار القضائي، ولا يمكن ان يكون هذا الجواز خرقا لمفهوم وصلاحيات السلطة القضائية المنصوص عليها دستوريا، ولايمكن أيضا ان يمنح الدستور صلاحيات قضائية لهيئات تنفيذية، او ان يكون طريقا لإنشاء محاكم وقضاء خارج إطار مفهوم السلطة القضائية التي اعتبرها الدستور ركيزة من ركائز الاطار الدستوري لتكوين السلطة الاتحادية الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية التي حددتها المادة (47) من الدستور.
ومن اللافت للنظر ان الهيئات المستقلة التي وردت ضمن أحكام الباب الرائع من الدستور (102 – 108) والتي وردت حصرا جعلتها خاضعة أما الى رقابة مجلس النواب او بمجلس الوزراء، وتم ربط المحكمة الجنائية العراقية العليا المنصوص عليها في المادة (134) من الدستور) بمجلس القضاء الأعلى حيث تقوم بأعمالها القضائية والتي تخضع الى رقابة محكمة التمييز الاتحادية والى أشراف مجلس القضاء الأعلى، مثلما تم ربط هيئة دعاوى الملكية المشكلة بنص المادة (136) من الدستور أيضا بمجلس القضاء الأعلى وتولت المحاكم المدنية النظر بإعمالها وفق الأصول.
وبهذا لايمكن ان تكون هناك هيئة سائبة لا ترتبط بأي سلطة من السلطات الثلاث، ولا يمكن ان تشكل سلطة رابعة لوحدها، ولأن مجلس الدولة هو الوريث الرسمي لمجلس شورى الدولة وتسري عليه أحكام قانون مجلس شورى الدولة رقم (65) لسنة 1979 المعدل، وهذا المجلس خاضعا ومرتبطا بوزير العدل.
وشكلت الفقرة الثالثة من المادة الأولى من قانون مجلس شورى الدولة خرقا وشرخا في العمل القضائي حين اعتبرت كل من رئيس المجلس ونائبيه والمستشار والمستشار المساعد قاضيا لإغراض هذا القانون عند ممارسته مهام القضاء الاداري، علما بأن أحكام المادة 18 من قانون المعهد القضائي العراقي رقم 33 لسنة 1976 المعدل لا تجوز تعيين قاضي او نائب مدع عام الا من كان متخرجا من المعهد القضائي، ومنح صفة القاضي للموظف الاداري تعد تجاوزا على سلطة القضاء وتعديا على نصوص الدستور والقوانين فلا سلطة اليوم فوق سلطة القضاء ولا سلطة تماثلها في الصلاحيات والعمل.
واستنادا لنص الفقرة أولا من المادة 93 من الدستور وبالنظر لاختصاص المحكمة الاتحادية العليا بالرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة، فإننا على يقين من ان هذه المحكمة ستنظر بعين الرقيب الحريص على التطبيق الدستوري والقانوني الصحيح لتعيد الحال الى نصابه بقرار قضائي واضح وصريح.