أمام الزخم الشعبي الهادر والمطالب بالإصلاح يبدو أن جميع الكتل السياسية والأحزاب والكيانات تتفق على تأييد ومساندة حزمة الإصلاحات، سواء ما تم تخويل رئيس الوزراء السيد العبادي لاتخاذها من مجلس النواب، لتصبح نافذة وفق الدستور والقوانين، أو ما تم اتخاذه من قرارات في سياق الإصلاح، مع بروز تيارات تتباين مواقفها حول آلية التطبيق .
جميع الإصلاحات التي أقرت شملت إلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وتقليص الحمايات الشخصية، وإلغاء ودمج وتقليص بعض الوزارات من 33 الى 22 وزارة، إلا أن القرارات لم تشمل تحسين الخدمات المزري في المحافظات والواقع المعاشي للمواطنين، ومعالجة حالتي البطالة والفقر .
كما لم تظهر أية جدية في معالجة ملفات الفساد ومحاسبة الفاسدين، بالإضافة الى مطالبات جدية بإقالة عدد من المحافظين وإلغاء مجالس المحافظات والبلديات أو تبديلها أمام فشل ذريع في أداء واجباتها، وأمام فساد وتقاسم للمناصب بين أحزاب تسيطر على السلطة، وتقود البلاد نحو الهاوية يوما بعد يوم.
وإذا أردنا متابعة الحقيقة فان مجلس النواب وهو المسؤول عن الرقابة على أداء السلطة التنفيذية وفق اختصاصه في الفقرة ثانيا من المادة ( 61 ) من الدستور، يكون شريكا في المسؤولية عن تدهور الوضع والفساد والترهل الإداري في مفاصل الدولة وتردي الوضع الأمني.
كما ان رئيس الوزراء الذي يفترض أن يكون رئيسا لوزراء العراق وليس ممثلا لحزبه أو كتلته السياسية، هو المسؤول التنفيذي الأول والمباشر عن السياسة والخطط العامة للدولة، ويشرف على عمل الوزارات، وهو القائد العام للقوات المسلحة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ويستطيع إقالة أي وزير بعد موافقة مجلس النواب، ويؤدي اليمين الدستورية، وتكون مسؤولية رئيس مجلس الوزراء والوزراء أمام مجلس النواب مسؤولية تضامنية وشخصية، بمعنى انه مسؤول عن أداء مهماته الدستورية والقانونية.
وأمام منح رئيس الوزراء الثقة في حزمة الإصلاحات التي خوله إياها الشعب وقررها مجلس النواب ، نلمس تحركا بطيئا لا يتناسب مع مرحلة التنفيذ، وأمام مطالب تتكدس يوميا ويغلب عليها الجانب السياسي على حساب المطالب الأساسية التي تمس حياة المواطن بشكل مباشر، وهي مطالب الكثير منها مشروع وقانوني، لن يكون الطريق سهلا للتنفيذ والوصول الى تلبية مطالب الشعب، إزاء تخندق المجموعة الفاسدة والمتضررة من حزمة الإصلاحات وقيامها بعرقلة التنفيذ أو وضع العوائق والحواجز التي قد تشل أداء رئيس الوزراء، سيما وأن العديد منهم من حزبه أو من كتلته السياسية وتلك معضلة جدية.
ملفات عديدة على رئيس الوزراء أن يفتحها، وأموال كبيرة على رئيس الوزراء أن يعمل على استعادتها، ومحكومين بجرائم فساد واختلاسات ورشى عليه أن يتعاون ليلقي القبض عليهم ويستعيد من كان منهم هاربا خارج العراق، واتهامات عريضة بحق مسؤولين سابقين وحاليين، بالإضافة الى متابعة قضية تطهير العراق من وجود المجموعات الإرهابية وهي تحتل أهلنا في الموصل والانبار .
أن الدستور العراقي ينص في المادة الأولى منه على أن جمهورية العراق دولة اتحادية مستقلة ونظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي، ويتكون النظام الاتحادي من عاصمة وأقاليم ومحافظات لامركزية وإدارات محلية، وأن التوسع في منح رئيس الوزراء الصلاحيات المتكررة قد تعيد بناء المركزية التي غادرها العراق الى غير رجعة، فالصلاحيات حددها الدستور، وهذه الصلاحيات الاستثنائية التي منحها مجلس النواب بغية إصلاح مرحلة استثنائية أيضا ، وبقاء هذه الصلاحيات مدة طويلة يلحق ضررا جسيما بالنظام الاتحادي، سيما وان هناك مطالبات تتعدى لتشمل إقالة مجالس المحافظات والمجالس المحلية.
إن حزمة الإصلاح المطلوبة ينبغي ان يكون هناك سباق مع الزمن لامكان إصلاح الحال وترقيع الثقوب التي ولدها الفساد، وبشرط ان تنسجم القوانين والإجراءات التي تتخذها السلطة التنفيذية متوافقة ومنسجمة مع الدستور .
سيواجه رئيس الوزراء العديد من العوائق التي تمنع الإصلاح ، منها على سبيل المثال لا الحصر ليس فقط التركة المتراكمة لفساد وأخطاء 12 سنة ، إنما سيواجه المحاصصة الطائفية والتوافق السياسي والتقاسم الحزبي للمناصب بغض النظر عن النجاح والمهنية والمصلحة العامة، كما سيواجه معضلة المناصب الوزارية والمناصب الأخرى التي تم الاتفاق على تقاسمها من قبل كتل سياسية شاركت في الفشل والفساد بشكل او بآخر، سيما وأن العراق اليوم يمر بأخطر أزمة مالية تهدد وضعه الاقتصادي أمام ميزانية شبه خاوية وتدهور وانخفاض في أسعار النفط عالميا وهو المورد الأساس والوحيد للعراق.
كما ان رئيس الوزراء العبادي نفسه تابعا من توابع حزب الدعوة الذي يقوده السيد المالكي، ولانجد مخرجا للسيد العبادي يعينه على اتخاذ إجراء أو موقف سلبي من المالكي وهو قائده وزعيمه، وما عليه إلا ترتيب الأوضاع بما يجنبه المسائلة والاتهام، سواء بقضية احتلال الموصل التي اتهمته اللجنة النيابية بمسؤوليتها أو بقضية سبايكر أو بقضايا استغلال الأقارب والأهل لمناصب لا يستحقونها وورود أسماؤهم ضمن ملفات الفساد.
وهناك نقطة غاية في الأهمية وهي تحديد نقاط الفشل الذريع الذي يتحمله قادة حزب الدعوة الإسلامي في قيادة وإدارة دفة الدولة، وأمام دولة اتحادية تكون مسؤولية الحزب التاريخية في الإقرار بهذا الفشل ، وان قياداته التي قدمها لتبوء المسؤولية لم تكن جديرة وموفقة بأداء مهماتها فقد أنتجت فشلا ساهم بشكل او بآخر في انتشار الفساد.
وهذا الاعتذار لا يخل بوطنية ومكانة الحزب، فالفشل المتراكم في إدارة الدولة منذ العام 2005 كان السبب المباشر في انتشار الفساد في مفاصل الدولة، وغير المباشر في سقوط ثلث العراق تحت سيطرة واحتلال الإرهاب، بالإضافة الى تردي الوضع الأمني داخل العراق.
إن مستقبل التظاهرات مرهون بالجدية في إنجاز عملية الإصلاح التي بدأت تتباطيء بشكل مقصود لترتيب الأوضاع، كما أن مستقبل التظاهرات الذي بدا عفويا سيتم استغلاله والتصدي له بشكل غير مباشر، وسيتم امتصاص النقمة الشعبية، غير ان الخشية من أن الأحزاب الحاكمة لا تدرك خطورة هذه الحركة الشعبية التي قد تتفاقم فتحرق الشارع، وتؤدي الى تقديم ضحايا ودماء لإسقاط كراسي ومناصب ورؤوس، فالتغيير الوزاري لوحده لا يلبي طموح الناس، ولم تزل وجوه متهمة بالفساد والفشل تتمسك بإدارة البلاد، كما لم تزل الطائفية والمحاصصة تمسك بتلابيب الوطن، والجميع يزعم انه مع الإصلاح ويدعم العبادي غير أن لهم وجهات نظر أخرى، مع أن المرجعية الدينية تدعم الإصلاحات بعد أن كانت لا تتدخل في زمن الحكومات السابقة.
التغييرات الجذرية في شكل النظام والحكم وتعديل الدستور والإصلاحات السياسية والإدارية ليست وحدها ما يريده الشعب، تمعنوا في مطالب الفقراء والبائسين والمعوزين، دققوا في قوت الناس وخبزها، وعلى كل مسؤول أن يحاسب نفسه ويقيم أداءه إن كان حقا مؤتمنا على حياة وأموال العراقيين.
فالسلطة وظيفة وتكليف لا تعفي احد من المحاسبة في حال الإساءة في استعمالها أو استغلالها اواحداث الضرر بها.