منذ سالف العصور، يحاول الإنسان جاهداً أن يبحث عن ملاذٍ آمنٍ ليحيا فيه...
ولهذا السبب تجدنا نعاصرُ حالاتٍ من الارتحال والهجرة الفردية والجماعية من البلدان التي تعاني من التوتر، أو التي يعاني عدد كبير من أفراد شعوبها من الاضطهاد والتمييز العنصري وما شابه..
ولكن سؤالنا هنا هو: هل يقتصر مفهوم الغربة على مسألة تغيير الأوطان فقط؟
كم من غريبٍ في بيته، وبين أهله..؟
كم من غريبٍ في عمله..؟
كم من غريبٍ في مجتمعه وبيئته..؟
فهل يا ترى يتوجب على كل فرد أن يترك أي مكان يصادفه الشعور بالغربةِ فيه؟
بالتأكيد لا.. لأن المسألة تتباين من موقفٍ الى آخر.. فموضوع هجرة الأوطان هي مسألة حياة أو موت، وذلك بسبب التهديد المباشر لسلامة وحياة الفرد المعني.
أما مسألة الشعور بالاغتراب العائلي أو العملي أو الاجتماعي فهذه مسألة تتعلق بمداخلات حياتنا الفردية وتعاملاتنا الاجتماعية والتي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على صحتنا النفسية.. نحن نضطر لتحمل ما نتحمله أحياناً من أجل من نحب.. ونضطر للاستمرار في عملٍ غير مريح بسبب التزامات أدبية أو أخلاقية.. ولكن يا ترى ما هو مردود هذه الالتزامات على صحتنا النفسية..؟
إن مسألة التعايش مع الألم النفسي المصاحب لقضية التعامل مع أشخاص غير أهل للثقة أو المحبة أو الأحترام هي مسألة شديدة الحساسية.. فمهما كان الإنسان متوازناً في مشاعره وتعامله المنطقي مع معطيات حياته إلا إن التعامل مع أفرادٍ من طبعهم الخيانة و الغدر أو الأنانية أو الفضول (وغيرها من الطباع الغير مستحبة) يجعل المرء في حالة من عدم الراحة والتوقد، ولكن قد يتوجب عليه إخفاءها بشكلٍ أو بآخر.
لأن الشخص الحكيم هو الشخص الذي يبتعد عن النزاعات والمواجهات على قدر الإمكان، وإن كان بإمكانه إخماد نيران السوء الموجودة في الطرف الآخر بأسلوبٍ يستحقونه.. ولكن التعامل السطحي والاحترام هما الحلان الأمثلان.
وقد يقول البعض بأن هناك من يتصور لاحترام ضعفاً، خصوصاً لمن لا يفقه معاني الاحترام...!
ربما، ولكني أؤكد بأنه ليس كل الناس مثل ما يتصور البعض بأنهم لا يفهمون أو لا يدركون قيمة مواقف الأشخاص في المجتمع..
بل هناك الكثيرون ممن لهم فكر وعقل واعي مستنير.. وهم يعلمون بخفايا الطباع السيئة لبعض الأفراد ونواياهم التي لربما يستطيعون تمريرها على البسطاء فكرياً أو ممن يستهوون تقبل الأكاذيب ويصدقونها بإرادتهم أو من تربطهم مصالح معينة معهم..
ولكن، الأشخاص الحكماء يعلمون بخفايا الأمور وواقعها.. وهذا ما يكسر قالب الغربة الفعلي في مثل هذه الحالات.. لأن نور الشمس واضح..
وظلام الغربة مستتر.. قد يظهر كهالة سوداء حول من اختاروا الظلمات بيوتاً لنفوسهم.. وهم أعلم بمعاناة قلوبهم التي لربما تبحث عن الحب والاهتمام... ولكنها ظلت طريقها.
واختارت البهتان في عالم السوء.
بدلاً من الحب والصدق في عالم الخير..
ولكن كل يوم هو فرصة للتغيير.. والمجال مفتوح لمن يتصورون بأنهم سعداء في عالم الضغينة، أن ينظروا ملياً لما هو حولهم.. وتصحيح ما يمكن تصحيحه.. في نفوسهم أولاً..
ومن ثم في تعاملاتهم مع الآخرين..
لأنه بالنهاية..
لا يصح إلا الصحيح..
وهناك لا وجود للغربة، في عالمِ الحق المبين.