مهما حاول الانسان أن يحافظ على صحته من خلال اتباع حمية غذائية معينة أو القيام بتمارين رياضية بشكل دوري وتجنب شرب الكحول وعدم التدخين وغيرها من الممارسات الصحية، فإن موقفاً مزعجاً واحداً قد يزعزع موازين الأمور ويسبب أنواعا كثيرة من الأمراض النفسية والجسدية التي تنجم عن ما يسمى بـ "القهر".. إن العقل والنفس والجسد هم تركيبة ثلاثية الأبعاد لا يمكن غض النظر عنها في تحليل صحة الفرد.. وعندما يغضب المرء أو عندما يشعر بالحزن الشديد يبدأ جسمه بأفراز هرمونات معينة بطريقة دفاعية عشوائية لغرض مواجهة الصدمة ومحاولة تلافيها..
ولكن أحياناً، يكون الموقف أقوى من الفرد.. فيتسبب بما يسمى بـ "القهر".
كلمة "القهر" مشهورة بين أوساط العراقيين بسبب الحياة المرّة التي عاشوها... وفي طفولتي كنت دائماً أسمع العبارات التالية:
"فلان مات من القهر..!" أو "فلانة قتلها القهر...!"
فالقهر يعني الحزن الشديد.. والذي تصل شدته الى حد قهر ذلك الإنسان الذي يبتلى به.. وعلى الرغم من تباين تأثير المواقف على صحة البشر تبعاً للتكوين النفسي أو الفيزيولوجي لأجسامهم، إلا إننا سنتناول اليوم بعض القصص الواقعية لمجموعة مهمة من مسببات القهر..
1. الصدمات النفسية التي تتعلق بالفقدان
إن فقدان شخص قريب بشكل مفاجئ يؤدي الى صدمة عاطفية لا يمكن وصف تأثيرها السلبي على صحة الإنسان.. في الثمانينيات، وفي بغداد تحديداً، رأيت بأم عيني عروساً تبكي بجنون أمام نعش عريسها الشهيد بعد 40 يوم من الزفاف.. لقد كان منظراً تقشعرُ له الأبدان.. لم يبقى أحد من أهالي الحي إلا وبكى بحرقة لرؤية مثل هذا المشهد المؤثر..! يا ترى ما هو تأثير مثل هذه الصدمة على صحة هذه المرأة؟
النتيجة: خلال عشر سنوات أصيبت هذه المرأة بأمراض جمة ومن ثم بالسرطان وماتت بعد معاناةٍ لا توصف.
2. التعذيب الجسدي والإهانة
عندما يتعرض المرء الى تعذيب جسدي (وخصوصاً إذا كان ظلماً) فإن مثل هذا الموقف قد يترك أثراً سلبياً على صحته لمدى الحياة على ذلك الإنسان..
في نهاية الثمانينات تم اعتقال شخص من أحد أبناء جيراننا في بغداد، بعد أستلام الأجهزة الأمنية بلاغاً كاذباً عنه بأنه يروي مزحات (نكات) عن السلطة.. تم ضرب هذا الشخص ضرباً مبرحاً وإهانته وإطلاق سراحه بعد بضعة أسابيع، بعد أن اكتشفوا بأن التهمة كانت كاذبة..!
النتيجة: بعد 6 أشهر تم إدخال هذا الشخص الى مستشفى الصحة العقلية لإصابته بالجنون..!
3. الخسائر المادية
بعد نهاية حرب العراق مع التحالف أبان احتلال الكويت في بداية التسعينيات، حصل اختلال في النظام الاقتصادي للعراق، مما أدى الى تضخم مالي غير طبيعي وفقدان العملة النقدية لقيمتها في التداول.. وكان هناك بعض الأفراد ممن أودعوا مبالغ هائلة في البنوك بقيمة مالية كبيرة قبل الحرب ولكن بعد الحرب فقدت قيمتها ووصلت الى ما يقارب 10% من القيمة الاصلية أو ربما أقل..!
النتيجة: إصابة عدد كبير من هؤلاء بالصدمة الدماغية، الجلطة القلبية، الشلل، وغيرها من الأمراض أو الحالات المرضية النفسية والجسدية.
أسئلة حيوية:
يا ترى كيف لنا أن نحافظ على صحتنا في عالمٍ ملئ بالشرور والصدمات؟ وكيف لنا أن نتجنب القهر، وما هي الضمانات؟
هل من وعد بأن تكون الرحلة هادئة وبدون منغصات؟
أجوبة نرجسية:
أقترح الأولون بعض الحلول لموضوع الألم.. فأوصانا البعض بأن لا نتعلق بالأشياء، ونصحنا آخرون بعدم الاختلاط والعزلة، وقال غيرهم أحبوا بعضكم بعضاً ولا تهتموا بهذه الحياة الفانية، بل ركزوا على ما وراء هذه الحياة، و و و و.. أجوبة كثيرة.
ولكن ما هو المنطقي منها؟
وهل هناك شيء أسمه حياة خالية من القهر؟
سأترك الجواب لكم أحبتي القراء.