تستوقفني بعض المواقف في هذه الحياة، وتدفعني للتفكير ملياً بواقع الأمور وخفايا الدوافع والحقائق المفيدة (علماً بأن بعض الحقائق قد تكون غير محببة للبعض)..
عموماً، هناك جوانب فلسفية للحكاية التي سأرويها لكم بأختصار... وكالعادة سأترك لكم حرية ربطها بواقع حياتنا الذي نحياه في هذا الزمن الحرج.
خلال بعض سنوات وجودي في استراليا، كان يقطنُ في الدار المواجهة الى داري في مدينة سدني رجلٌ مسنٌ مع زوجته.. وكانا يحيان في الجزء الأمامي من دارهما، أما الجزء الخلفي فهو مُستأجرٌ من قبل عائلة هندية صغيرة..
وكان ذلك الرجل من اصل أوروبي، ومعروفٌ عنه بأنه لا يحب فصل الشتاء، لأن البرد لا يتلائم مع صحته في مرحلة الشيخوخة.
ولهذا السبب، فقد كان يقضي فصل الصيف في استراليا، ويسافر الى مسقط رأسه خلال فصل الشتاء حيث يكون صيفٌ في اوروبا، فالفصول تتعاكس بين الجزء الجنوبي والجزء الشمالي من الكرة الارضية.
عموماً، لاحظتُ شيئاً مهماً يحدث الى حديقة داره خلال غيابه، حيث تذبل جميع الورود وتصّفرُ الاشجار وتنعدم الحياة فيها بشكل شبه تام.. علماً بأن ابنته وحفيده يأتيان كل اسبوع لرعاية الحديقة، والمستأجر أيضاً ملتزم بالتنظيف الدوري، ولكن بدون فائدة، فالحياة في حديقته تختفي بغيابه. حاولتُ أن أربط هذه الظاهرة بموضوع الفصول الاربعة وما شابه، ولكن حديقتي كانت تحتفظ ببعض الالوان (على الرغم من إهمالي لها في تلك الفترة).
المهم، في إحدى السنوات أضطر الرجل لأن يبقى في داره خلال فصل الشتاء في استراليا لسببٍ معين.
فإذا بالحديقة تزهو وتزهو وتتلون بألوانٍ بديعة في الجمال والبهاء...!
كنتُ أتخيل الأشجار تنظر الى صاحب الدار وهو يسير في أرجاء حديقته، وتشعرُ بالأمان، لأنه معها، فهو من زرعها، وهو من بنى الدار.. حتى حجارة الدار كانت تستجيب للمساته في دقائق وتتحول واجهة البيت الى قطعة فنية من ناحية النظافة والإشراق.. كَذَبَ كلُّ من قال بأن النباتات لا تشعر.
ولم يَصْدُق كلُّ من قال بأن هناك جماد.. فكل شئ في هذه الدنيا حيّ. حتى الصخور والحجارة. إلا القلوب الناكرة للمعروف. فالبيوت تُحب من بناها أو اشتراها بكدّه وتعبه، وهو الوحيد الذي يستطيع بث الحياة في اركانها. (وهذا الكلام ينطبق على الأوطانِ أيضاً).. في السنوات الاولى من وجودي في أستراليا، عملتُ في شركة كان مديرها يستخدم مكتباً صغيراُ في بيته لإدارة شؤون أعماله من هناك..
والشيئ الغريب الذي انتبهتُ إليه هو كلما تحدث مشكلة في موقع العمل (الذي لا يتواجد فيه في معظم الأحيان) تراه يعطينا تعليمات دقيقة عبر الهاتف عن كل شبر في المكان ذي العلاقة، ويساعدنا على حل المعضلة بكل اهتمام ودقة.. وكأن موقع العمل يسري في دمه.. لأنه مصدر رزقه.. وهذا الارتباط- سواء أن كان من خلال الحاجة أو التعلق العاطفي - هو الذي يخلق حياة من نوع آخر.. وصدقوني بأن هذا الكلام حقيقي، وممكن إثباته فيما لو بحثنا بجدٍ في الموضوع..
فكم مرة سمعتم عن عاشقٍ أو كلبٍ أو طيرٍ أو حيوانٍ يموت بعد موت صاحبه بفترة وجيزة؟
تأكدوا يا قرائي الأعزاء، لا يمكننا أن نشعر بقيمة الاشياء إذا لم تربطنا مشاعر حقيقية معها..!
ولا يمكن أن تكون هناك علاقة ارتباط حية إذا لم تبنى على الحب والحرص والاهتمام المتبادل.. وهذا الكلام يمكن تطبيقه على كل مفردات حياتنا.. جرّبوا إذا شئتم.. وثقوا بأن كل شئ (أصيل) يستجيب لمن يحبه ويرعاه (بأمانة).. إلا بعض البشر (وليس الكل)، فهم الوحيدين الذين من الممكن أن يخونوا من يرعاهم.