عندما كنتُ صبياً يافعاً، قرأتُ قصةً في كتابٍ قديم، لا أذكرُ أسمه بالضبط، ولكني أذكرُ بعض تفاصيل تلك القصة التي لا أعلم فيما لو كانت حقيقة أم لا، ولكنها تركت أثراً لا يُمحى في ذاكرتي..
تتضمن أحداث القصة بأن أحد رجال الدين الأوربيين ممن كانوا يسعون الى البحثِ عن حقيقة الوجود في التأريخ والحضارات المتنوعة، قرر أن يزور مصر، وأن يقوم بأبحاثة في الأهرامات، كونها لغزٌ كبير لم تُحل رموزه بعد. وعند وصوله الى مصر أرشدوه الى باحثٍ مصري لكي يساعده في مسعاه.. فذهب إليه عند الأهرامات، وعرّفه عن نفسه وعن هدفه، فرحب به العالم المصري وقاما بالبحث سوية في بعض المخطوطات ليومٍ كاملٍ، مما دعى بالمصري لأن يدعوا صديقه الجديد الى تناول وجبة عشاء في بيته.
فذهبا سوية الى البيت، وإذا به يخلو من الأثاث الفخم والحلي والبهرجة التي كان يتوقع الرجل الأوربي أن يراها هناك.. لقد كان البيت شبه فارغ..! وبعد جلوسهما على الأرض، قدّم المصريُّ طعاماً بسيطاً مما كان معه في البيت.. وهما يتناولان الطعام، سأل الأوربي نظيره المصري بفضولٍ شديدٍ، قائلاً: عذراً يا سيدي،
أنت باحثٌ معروف في شؤون الآثار، وعلى ما أعتقد بأنك تتقاضى أجوراً جيدة عن أكتشافاتك، ولكن مابال بيتك خالياً من الأثاث والأسرّة المريحة وغيرها من متطلبات الرفاهية؟ فنظر إليه الباحث المصري مُبتسماً، وقال: ومالي أراك حاملاً لحقيبة سفرٍ واحدة لا تحتوي على الكثير من الاشياء؟ فأجاب الأوروبي: أنا زائرٌ هنا في رحلةٍ قصيرةٍ، وسأعود الى وطني الأم بعد فترة وجيزة..! فردَّ المصري: وأنا كذلك..!بصراحة، لم أفهم معنى هذه القصة في طفولتي، فسألتُ والدي عن تفسيرها.
فقال لي أبي: يا بُني، نحن كُلنا زائرون في هذه الحياة، وسيأتي اليوم الذي نغادر فيه.. لذا يتوجب علينا أن نبتعد عن الجشع والطمع والأفتخار والحروب والأذى.. حينها، ومنذ ذلك اليوم، تعلمتُ أن أكون متواضعاً و قنوعاً في مأكلي ومشربي وأن أبتعد عن المفخرة الزائفة
في حياةٍ قصيرة، لأنها وإن طالت فإنها لا تعادل سوى دقائق في زمنٍ سحيق.. وأستغرب كثيراً عندما أرى بعض الأفراد يحتالون على فلان وعلى علان لكي يكتنزوا الأموال وتزداد ارصدتهم في البنوك..! (وهذا الكلام لا ينطبق على العمل الشريف أو الحصول على مردود تجاه الخدمات التي يقدمها الفرد، ولكن بمعقولية ونزاهة).. أو غيرهم ممن يتباهون ويتفاخرون بأنهم أذكياء أو يملكون كذا وكذا ولديهم نفوذ وقوة وسلطان وووووغيرها.. تأكدوا يا قرائي الأعزاء، كل هذه التصرفات الباطلة ستعجز عن إبقاء أي أحد عندما تحين ساعة المغادرة.. لذا، كفانا أستعراضاتٍ زائفة..! ودعونا نروج للقيم السامية وللأعمال الخيرية، كمساعدة المحتاج ورسم ابتسامات على وجوهٍ حزينة والدفاع عن المظلومين، لكي نحيا معنى الحرية الحقيقي، الذي يتجسد في المنفعة العامة خلال هذه الرحلة.. والتي وإن طالت، فهي قصيرة.